عاشت الكويت منذ النصف الثاني من الشهر الجاري وعقب وفاة الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، رحمه الله، تحدياً تحول الى أزمة سياسية ودستورية على مدى أيام عشرة، انتهت بشكل درامي مؤثر بعدما حبست أنفاس الكويتيين والعرب والمراقبين عبر الفضائيات والإعلام والصحافة. ولا يمكن فهم ما جرى واستيعاب أبعاده من دون وضعه في سياقه السياسي - الدستوري والاجتماعي لأسرة حاكمة ومتجذرة الشرعية في وجدان شعبها الذي بايعها منذ أكثر من قرنين ونصف القرن، ومن دون أن نفهم عمق التجربة الديموقراطية الكويتية المتأصلة التي تعود لعام 1921 وبداية مجلس الشورى والمجلس التشريعي لعام 1938، وصولاً الى صوغ دستور 1962 هو الأول والأكثر تجذراً في منطقة الخليج بأسرها وانتهاج النظام البرلماني لأول مجلس أمة منتخب يمثل الشعب منذ 1963. خلال الأربعة عشر شهراً الماضية عمل مبدأ التوارث في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل سلس ومنظم وبشفافية واضحة، بداية في أبوظبي مع رحيل حكيم العرب الشيخ زايد بن سلطان مؤسس الفيديرالية الإماراتية وخلفه نجله الأكبر الشيخ خليفة، وفي الصيف الماضي غيّب الموت"فهد السعودية"خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، ليخلفه خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وفي مطلع هذا العام توفي الشيخ مكتوم بن راشد حاكم دبي ليخلفه شقيقه الشيخ محمد بن راشد. وفي منتصف كانون الثاني يناير الجاري توفي أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد، باني نهضة الكويت، وأثارت وفاته الأزمة التي عشناها في الكويت وتابعها العالم بترقب، ثم باعجاب واضح عبّر عنه العديد من المحللين والكتّاب العرب والأجانب، وبتماسك وإجماع في الداخل قل نظيره، إذ تعامل الجميع حسب نصوص الدستور. ما حدث عندنا في الكويت يعد انجازاً يحسب للنظام الكويتي الذي زاد من رصيده وحصن النظام وجعله نموذجاً، سواء بتفعيل مواد الدستور أو قانون توارث الإمارة الذي يتمتع بثقل الدستور في التعامل مع رئيس الدولة - وكيفية احتكام جميع الفرقاء في الأسرة الحاكمة أو مجلس الأمة. وقد طالب رئيس المجلس وجميع الأعضاء والكتل والتيارات السياسية قاطبة من الأسرة أن تتوصل الى حل من دون أن يضطر مجلس الأمة الى اتخاذ القرارالمؤلم لمناقشة الوضع الصحي وتفعيل مواد قانون توارث الإمارة الصادر عام 1964، والذي لم يتم استخدامه سابقاً في التصويت بشأن أهلية رئيس الدولة في ممارسة صلاحياته بسبب وضعه الصحي. وكان ذلك لافتاً ويسجل للمجتمع الكويتي قاطبة، خصوصاً لشخصية بحجم ومكانة وإرث الشيخ سعد العبدالله بطل التحرير وحامل هم الكويت، الرجل الذي خدم بلده على مدى أكثر من نصف قرن والذي يحتل مكانة متميزة في عقول الكويتيين وقلوبهم. كان فرح الكويتيين كبيراً عند التوصل الى حل داخل الأسرة، ولذلك كان مقرراً لجلسة الثلثاء أن تكون تاريخية وغير مسبوقة للنظر بسحب صلاحيات أول رئيس دولة عربية وإعفائه من منصبه ما لم يقدم تنازله الشخصي عن الحكم. وإذا بمنغصات وألاعيب ومماحكات اللحظة الأخيرة تفسد الاتفاق. وبدأ سباق بين رسالة التنحي والتنازل والجلسة الحاسمة والتاريخية التي ستناقش للمرة الأولى الوضع الصحي المفصل لرئيس دولة - يتم الاحتكام فيها للدستور ويصوّت الأعضاء في سابقة أخرى وهي غالبية 100 في المئة من مجموع الأعضاء ال65 الذين يتكون منهم عضاء مجلس الأمة 49 وأعضاء مجلس الوزراء ال16. ولم يسبق أن اتفق المجلسان على هذه النسبة والحصيلة العددية حول أي موضوع أو قانون. ووصلت رسالة تنازل الأمير متأخرة دقائق، فاكتفي ب"اشارة"اليها وبتضمينها قرار مجلس الأمة الذي أنهى الأزمة في جلسته التاريخية. من الواضح انه منذ البداية لم تكن لدينا أزمة نظام بمقدار ما كانت أزمة ناجمة عن اختلافات في الموقف والرؤى وطريقة الخروج من المأزق، أكثر من أي سبب أو أجندة أخرى. ولطالما واجهت الكويت أزمات عدة هددت كيانها وجعلتها أقوى وأكثر تماسكاً. من معركة الصريف الى معركة الجهراء، ومن أزمة مجلس 1938، الى تهديدات عبدالكريم قاسم. من أزمة سوق المناخ في الثمانينات الى الحرب العراقية - الايرانية التي دفعت الكويت فيها أثماناً واعتداءات عدة، وصلت الى حد محاولة اغتيال الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد عام 1985، ثم الى الغزو والاحتلال العراقي، الى حرب تحرير الكويت فالحرب الاميركية في العراق. لقد تفوقت الكويت على نفسها وهي تعبر هذه الأزمة وصنعت التاريخ لنفسها وفي اقليمها، وتبوأت في عالمنا العربي مكانة دولية يحكمها نظام توارث دستوري يحتكم فيه الجميع للدستور، دولة يقصي برلمانها رئيس الدولة. وحتى الرسالة التي وصلت متأخرة من جانب رئيس الدولة الأمير سعد العبدالله والتي يؤكد فيها تنازله عن الحكم تعد سابقة لرئيس دولة عربية يقدم مصلحة بلده على المصالح الشخصية الذاتية. لكن هذه الأزمة السياسية - الدستورية، شكلت تحدياً من نوع وطبيعة مختلفين. هذه هي المرة الأولى التي يطفو فيها على السطح هذا النوع من التجاذب داخل الأسرة الحاكمة التي تأكدت شرعيتها أكثر من مرة. كانت هذه من المرات النادرة التي تفعل فيها مواد لها ثقل الدستور من جانب مؤسسة ديموقراطية ومجلس الأمة لتفصل في الخلاف داخل الأسرة التي استطاعت، طوال قرنين ونصف القرن ومنذ الاستقلال عام 1961، ترتيب أوضاعها والتوصل الى اتفاق بين أجنحتها من دون الحاجة الى دور خارجي خصوصاً من مؤسسة البرلمان. لا شك ان الأزمة الكويتية، ألقت بظلالها وتداعياتها على بعدها الخليجي والعربي، حيث يكثر الحراك السياسي والحديث عن الدمقرطة والمشاركة السياسية والخطط الأميركية لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير، مع وصول الجماعات الاسلامية الى السلطة بشكل مثير يحرج أميركا أكثر مما يفرحها وهي تشاهد خصومها في العراق ومصر وحماس يحققون اختراقات كبيرة بل يصلون الى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع كما تطالب واشنطن، مما يشكل لها معضلة حقيقية. يمكن للحدث الكويتي ان يعطي ثقة وحافزاً لقوى المعارضة والاصلاح في العالم العربي، والتي بح صوتها في الداخل والخارج بالمطالبة بالتغيير والاصلاح، وحتى بإقالة وعزل رئيس الدولة من دون ان تتمكن من ذلك. فيما تعدل أنظمة أخرى دستورها، لتتحول الى جمهوريات ملكية ورؤساء مدى الحياة، تتفرد الكويت بنموذجها وتجربتها وتصنع تاريخاً وتعيشه لما سيدرس بعد عقود عن أهمية وفائدة الدستور كصمام أمان، وآلية ومرجعية تضع حداً للخلافات بين الفرقاء في السلطة بعيداً عن التمترس والتخندق والاصطفافات وبشكل سلمي وسلس وخلال أيام وليس سنوات. وكم كان مراقباً ان يجري كل شيء وسط حياة طبيعية بلا اعلان حال الطوارئ أو نزول الجيش أو الحرس الوطني الى الشوارع، أو حصول اضطرابات وأعمال شغب أو حتى"ضربة كف واحدة". لا شك ان الكويت عاشت تجربة جديدة وفريدة من نوعها، ولا شك اننا في الكويت جميعاً خرجنا رابحين. لكن الرابح الأكبر هو الشعب عبر ممثليه والمؤسسة الدستورية ممثلة بالبرلمان والدستور، فهذه المؤسسة - مجلس الأمة - هي التي كانت اللاعب الرئيسي. ويبدو أن دور مجلس الأمة سيتصاعد بعدما وصل به الأمر الى سحب صلاحيات رئيس الدولة. مما يعني ان الاصلاحات السياسية القادمة التي سينتهجها الأمير الجديد الشيخ صباح الأحمد ستتعامل مع مجلس الأمة الذي اكتسب المزيد من القوة والشعبية والزخم من الأسرة والشعب الكويتي ليلعب دوراً أكبر في النظام السياسي الكويتي مستقبلاً. ولا نستغرب ازدياد المطالبات باستمرار فصل منصبي ولي العهد عن منصب رئيس الوزراء، والذي هو من اختصاص الأمير وصلاحياته، حتى لا تستبعد امكانية استجواب رئيس الوزراء، ووزراء السيادة من الأسرة. كما ان بعض النواب والقوى السياسية يطالبون بأن يكون رئيس الوزراء ووزراء السيادة في المستقبل من خارج الأسرة الحاكمة، مع مطالبة المجتمع الكويتي قاطبة الأسرة الحاكمة بأن تبقي على توازنها وتماسكها بشكل يجمع ويوحد، وأن يتم الحل داخل الأسرة ضمن بيت آل الصباح وأن تبذل الأسرة جهدها حتى لا يتكرر المشهد الكويتي الذي عشنا فصوله أخيراً. أستاد العلوم السياسية، جامعة الكويت.