لعل احد التغييرات الاساسية في التفكير الفرنسي الرسمي هو الانتقال من"الدعم الكامل"للنظام السوري و"رفض التغيير"الى الاقتراب اكثر من الرأي الاميركي الذي يتحدث عن"تغيير في السلوك"او"في النظام"من قبل المسؤولين و"تغيير النظام"من قبل الباحثين. وعبر عن ذلك في كون فرنسا هي القوة الدافعة لجميع القرارات الاخرى التي صدرت في ما يتعلق باغتيال الرئيس رفيق الحريري وسعيها الدائم الى الحفاظ على"الاجماع الدولي"في القرارين 1636 و1644، اضافة الى السعي لاطباق"العزلة"على سورية. ويرى المستشرق في"كوليج دو فرانس"العريقة هنري لورانس ان هناك رهانا أوروبياً وفرنسيا على العلاقة مع العالم العربي باعتباره لا يبعد سوى 15 كيلومترا عن القارة الأوروبية في مضيق جبل طارق، وسيكون متاخما لها لدى انضمام تركيا الى الاتحاد. ويؤكد ان اوروبا تريد استقرار العالم العربي،"لكن الخطر يكمن في سياسة تعتمد فقط على الاستقرار لأن ذلك يبعد الناس عن الانظمة الموجودة". يؤكد مسؤولون انهم يريدون من سورية"تأكيد سيادة لبنان واستقلاله وقدرة الشعب اللبناني على ادارة شؤونه بنفسه من دون أي تدخل خارجي، والتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية"في جريمة اغتيال الحريري. وهذا يعني رسميا رفض"زعزعة الاستقرار". لكنه هل يعني فعلا رفض"تغيير النظام؟". يقول الصحافي في اذاعة"مونتي كارلو"سليم بدوي ان الموقف الرسمي هو"رفض التدخل في الشؤون الداخلية"وان لا علاقة للفرنسيين بانشقاق النائب السابق للرئيس السوري عبدالحليم خدام لذلك طلبوا منه عدم التحدث الى الاعلام من الاراضي الفرنسية. ويضيف مدير معهد دراسات العالم العربي في مدينة اكس في جنوبفرنسا الالماني ايبرهارد كيلنه الى ذلك رفض باريس"تغيير النظام من خارج لاننا شاهدنا نتيجة ذلك في العراق، باعتبار ان الديموقراطية الطائفية ليست ديموقراطية، وان الديمقراطية تأتي في كل الدول بعد تاريخ طويل من الممارسة ونتيجة تطورات وصراعات طويلة بين الطوائف والطبقات. وهناك اسلوب أفضل وهو الاصلاحات الداخلية ودعمها من خارج او تغيير النظام مع بقاء الدولة". ولدى الحديث عن هذه المسألة لا يبدو ان هناك فجوة كبيرة بين موقفي الاليزيه والخارجية الفرنسية ازاء رفض"تغيير النظام". لكن قراءة ثنايا الكلمات تشير الى اختلاف الزاوية التي تنظر من خلالها كل مؤسسة. ويقول مصدر في المؤسسة الاولى ان باريس"لا تبحث عن تغيير النظام في سورية، بل تريد تغيير سلوكه، وان تعترف سورية في شكل كامل باستقلال لبنان وسيادته وان تتعاون من دون شروط مع لجنة التحقيق الدولية الى ان تكشف الحقيقة في اغتيال الحريري. لماذا يؤدي التحقيق والاستجابة لطلباته الى انهيار النظام؟ ان مسألة النظام مسألة داخلية. وفرنسا تطلب من الجميع الخضوع للقانون الدولي". ويؤكد السناتور الديغولي رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بيار هنري غودشيان المؤيد لشيراك"تأييدا كاملا لانه مكسب للدبلوماسية الفرنسية"، ان بلاده ترى ان امر"النظام السوري شأن داخلي". وفي مقابل هذا الحديث عن"تغيير السلوك"و"التعاون غير المشروط"وان"مستقبل النظام مسألة داخلية"، يقدم مصدر في الخارجية رؤية تقليدية للموقف الفرنسي او الاوروبي القائم على انه"ليس على القوى العظمى احداث التغيير، بل على الشعوب العربية احداث ذلك عبر الانتخابات. وعلى العرب تقرير نوع النظام السياسي الذي يريدون وعلينا مساعدتهم. وهذا ليس سهلا لان للتاريخ دورا كبيرا في ذلك، كما ان للصراع العربي - الاسرائيلي دوراً كبيراً. وما حصل في العراق يعقد الوضع". وعليه يركز الخطاب الدبلوماسي حاليا على تعاون دمشق في مسارين: المسار القضائي والقرار 1595 حيث تريد باريس الحقيقة في اغتيال الحريري، والمسار السياسي والقرار 1559 وتطبيقه بروح ايجابية. وهذا لا يتم من دون حوار وطني بين حكومة فؤاد السنيورة و"حزب الله"للتوصل الى اعادة سيادة لبنان على الجنوب وتعزيز السلطة اللبنانية. الامر معقد وفي حاجة الى دور ايجابي من سورية. وفي نهاية المسارين، تريد باريس دولتين، لبنانية وسورية، تتعاملان على قدم المساواة، وتريد علاقات وثيقة بين الشعبين والدولتين. وبعدما يسأل المصدر:"ماذا نريد؟"يكرر :"اولا، نريد ان يكون لبنان سيدا وحرا ومستقلا وان تعاد الديموقراطية الى حياته السياسية. ثانيا، ان تقوم سورية مثل أي دولة اخرى بتلبية طلبات اللجنة الدولية"مع الحرص على توفير"الاجماع الدولي". "غموض بناء" غير ان حوارات معمقة مع قريبين من صناعة القرار تكشف ان الكثير من"الغموض البناء"يكتنف الموقف الرسمي الفرنسي. ويقول بدوي ان فرنسا تريد"ذهاب التحقيق الى اخر مداه وتحديد المسؤولين ومحاكمتهم، وهناك تعهد رسمي وشخصي بذلك"، مشيراً الى ان باريس لا تعتقد ان ذلك يمكن ان يقود بالضرورة الى تغيير النظام، لكنه يلفت الى وجود اعتقاد بضرورة"اعداد البديل قبل التغيير"مجرياً مقارنات مع ما حصل مع كل من الخميني الذي اقام في باريس قبل عودته الى طهران نهاية عام 1979 وميشال عون الذي عاد اخيرا الى لبنان. وربما أمكن الاقتراب من فهم التصور الذي تحمله"مجموعات التفكير"ثينك تانك المستشرقة ازاء العلاقة بين الموقف الرسمي والتمسك بالتحقيق، لدى قول لورانس:"رأينا في يوغوسلافيا ان الاجراءات القانونية ادت الى افلات الامور من زمام السياسيين. منذ اغتيال الحريري هناك تحقيق قانوني لا يمكن ان يسيطر عليه السياسيون اليوم. هذا الذي يجعل هامش عمل السياسيين اكثر صعوبة لانهم لن يتمكنوا من المفاوضة والمساومة"، قبل ان يشير الى عنصر اخر يقوم على اساس ان"الامور في الشرق الاوسط تحصل في شكل مفاجئ". ويجمع عدد من الخبراء على ان باريس"مدركة ان تغيير النظام في سورية سيقود الى عدم الاستقرار، وان فرنسا لا تؤمن بنظرية الفوضى البناءة لانها خطرة جدا. لكن في الوقت نفسه، بدأ بعض منظريها يفكرون انه كلما زادت في دعم الانظمة فان حجم المشكلة سيزيد". وبين هذا وذلك، هناك مسؤولون يأملون في"خيار التغيير من داخل"بسيناريو هو اقرب الى"خيار كارلوس"في اشارة الى الملك الاسباني خوان كارلوس الذي قاد التغيير وواجه العسكر في بداية الثمانينات. ويوضح الصحافي جورج مالبرونو ان"هناك املا في ان يستخدم الرئيس الاسد الفرصة لاجراء تغيير في محيطه وادخال اصلاحات، وان يتخذ اجراءات ضد بعض المسؤولين. لكن هذا في حاجة الى دليل. المطلوب: خطوة قضائية، اصلاحات، انتخابات للخروج من المأزق الكبير". مرة اخرى، لن يأتي الكلام الاوضح من الرسميين امام صحافيين سوريين، بل من احد الخبراء القريبين جدا من الدوائر الرسمية وهو ان شيراك"تعهد شخصيا ان يغير النظام السوري قبل نهاية ولايته". ويقول الباحث جو باحوت :"لا ممانعة فرنسية اذا سقط النظام السوري. مبدأ تغيير النظام ليس مبدأ عاما، لكن ليس هناك حرص على النظام كما كانت الحال سابقا، بل سعي الى نهاية مبرمجة"، في حين يتابع دبلوماسي ان"البديل عن النظام لم يعد هاجسا كبيرا لدى شيراك وهو ليس هاجسا لدى الاميركيين"، الامر الذي لا يوافق عليه مصدر دبلوماسي عريق يعتبر ان الاساس هو"توسيع هامش الديموقراطية من دون المساس بالاستقرار. الاستقرار ثمين مثل الديموقراطية. وفيما تعتقد اميركا ان قرار الشعوب سيؤدي الى دولة مثل اميركا، فاننا رأينا شيئا مذهلا في مستوى الطائفية في العراق. كما اننا نعتقد ان هناك دورا كبيرا للنزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. وهذه المسألة لا يمكن عزلها عن مسألة التقدم والديموقراطية. فيما تفصل اميركا في شكل كامل بين المسألتين، لان الرؤية الاميركية تقوم على اعتبار النزاعات مسألة ثانوية انطلاقا من ان تحرير القوى الاقتصادية والاجتماعية سيؤدي الى السلام في هذه الدول". وللتدليل على مدى حرارة الملف السوري في الاروقة الفرنسية، عقد معهد العلاقات الدولية ندوة اعتبر احد الدبلوماسيين خلالها ان"النظام متماسك واقوى مما نعتقد ويزداد قوة"، فيما رأى احد الخبراء ان سورية امام ثلاثة سيناريوات:"الاول، سقوط سريع للنظام بسبب رغبة اميركا في انتهاز الفرصة قبل انغلاق النافذة. الثاني، ان تكسب سورية الوقت ومرور التحقيق مع بروز وضع اقليمي معقد تعيش خلاله ضعفاً. الثالث، المواجهة بسبب زيادة حدة التشدد وتعزز محور ايران ? سورية -"حزب الله"و"حماس"في لعبة اقليمية معقدة". ازاء هذه النقاشات يمكن الحديث عن اقتراب رؤية ادارة"الديغوليين الجدد"من"المحافظين الجدد"، ما يطرح تساؤلات عن مستقبل"الالتقاء"الاميركي - الفرنسي. وكما ان لدى بعض القوى اللبنانية قلقا كبيرا من حصول تفاهم سوري - فرنسي، هناك قلق في اوساط فرنسية من حصول"صفقة"سورية - اميركية لأن باريس ستكون"الخاسر الاكبر"بحسب اعتقاد مالبرونو. ويبدو هذا القلق اوضح في اوساط الدبلوماسيين المخضرمين، الامر الذي يفسر حرص مستشار الامن القومي الاميركي ستيف هادلي والمبعوث الشخصي للرئيس الفرنسي موريس غوردو مونتانييه، على عقد اجتماع دوري كل شهر، اضافة الى حصول اجتماعات دورية بين مستشاري الشرق الاوسط في وزارتي الخارجية، للمزج بين الخبرة الفرنسية الكلاسيكية والعزم الاميركي. وفيما قال احد الدبلوماسيين ان فرنسا طلبت رسميا اخيرا من واشنطن"عدم التأثر"بالاجراءات التي تقوم بها سورية تجاه العراق، اشار دوني بوشار الخبير الفرنسي في معهد العلاقات الدولية الى احتمال استمرار التعاون لان اميركا"باتت اقل ايديولوجية"بعد تسلم كوندوليزا رايس حقيبة الخارجية بداية العام الماضي، الامر الذي وافق عليه كينله، قائلا:"اداء الخارجية بات اقرب الى اسلوب كولن باول"، ما دفع غودشيان الى الاستنتاج ان"لا تنافس بين البلدين في لبنان". واذ يرى احد الخبراء ان"التصادف ظرفي لان المصالح غير متطابقة"، فان مصدرا رسميا يحصر التعاون في"التنسيق الاميركي - الفرنسي لتطبيق قرارات مجلس الامن، لأن القضية ليست سورية - فرنسية او لبنانية - فرنسية، بل تخص المجتمع الدولي. وقرارات مجلس الامن دلت على وحدة مجلس الامن واجماع المجتمع الدولي. وليس هناك انقسام بين سورية ولبنان من جهة وبين المجتمع الدولي من جهة أخرى". لكن باحوت يقول ما لا يريد ان يسمعه بعض الرسميين لدى طلب استشاراته من ان هناك مؤشرات الى بدء انغلاق نافذة النفوذ الاميركي الذي بدأ بعد حرب الخليج الاولى بسبب ارتفاع الاضرار الاميركية وعودة روسيا وصعود الصين والاخفاق النسبي في العراق. كما يتحدث دبلوماسيون مستعربون عن ظهور امتعاض داخل المؤسسة التقليدية الفرنسية القائمة على معارضة المواقف الاميركية وعدم الارتياح للاسلوب الاميركي في مواضيع الديموقراطية والاصلاح والاسلام السياسي. ويضيف باحوت"ان شيراك يريد التعويض عن مشاكله الداخلية بانتصارات معنوية عبر التركيز على الملف السوري - اللبناني"، قبل ان يشير اخرون الى"فرق هائل بين الوزن الخارجي وشبه الانعدام الداخلي لشيراك". وبحسب عدد من المحللين والخبراء في باريس، لن يحل ذهاب شيراك"المشكلة السورية"بسبب الاعتقاد بأن انتقال الرئاسة الى وزير الداخلية الحالي نيكولا ساركوزي قد تعني"التطابق الكامل"مع الموقف الاميركي في ما يتعلق ب"الارهاب"ونزع سلاح"حزب الله"وصولا الى موقفه من المسألة السورية على خلفية زيارته الى سورية خريف عام 2000، وفق الوصف الذي قدمه في كتاب عنونه ب"الحر". اما انتقال الرئاسة الى رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان، فانها تعني استمرار خط شيراك السياسي واقتراب الادارة الديغولية من الادارة الاميركية في رؤية عابرة للاطلسي، مع انتفاء البعد الشخصي سلبا مع سورية وايجابا مع لبنان، وان كانت المدرسة التقليدية الفرنسية المعادية ل"المحافظين الجدد"ستستمر في السعي للخروج من عباءة"الديغوليين الجدد". وفي هذا الاطار، ربما تصح المراهنة السورية على عامل الزمن سواء في ما يتعلق بانتهاء ولاية شيراك عام 2007 وجورج بوش عام 2008 قبل"انجاز المهمة"وزيادة المشاكل الاميركية في العراق او اصطدام جميع الاطراف بالواقع. لكن المراهنة الاساسية في حال افتراض قرب"الطلاق"بين الطرفين يجب ان تكون على تعاط سوري متجدد وبراغماتي يقوم على رؤية معمقة للمستقبل". پ