اذا كان"مبتدع"التحليل النفسي سيغموند فرويد قد ركز جزءاً اساسياً من كتبه واشغاله على قضيتي الفن والاحلام، فإن من المدهش، من باب اولى، ان نلاحظ انه ? لحد علمنا ? لم يتنبه الى رسوم معاصره، الفنان البلجيكي جيمس انسور، التي كان من شأن الاشتغال عليها تحليلاً وسبراً، ان يوفر له ? أي لفرويد ? مادة تساند، ومن بعيد، استنتاجاته. وفي هذا الاطار لا بد من الاشارة، قبل أي شيء آخر، الى ان الباحثين في حياة انسور وأعماله استندوا دائماً الى كتابات فرويد للامعان في دراسة حال هذا الفنان الذي يكشف الجزء الاكبر من عمله كيف ان هذه الرسوم انما استحدث موضوعاتها من احلام أليمة ومن افكار داعبت، دائماً، خيال وفكر انسان عاش، بكل كينونته، خوفاً من العالم ومن الوجود، فترجم ذلك اشباحاً وأقنعة وهياكل عظمية وجماجم ملأت فضاء تلك اللوحات، في الوقت نفسه الذي كان جزء اساس آخر من تلك الرسوم تعابير سخرية من الاطباء والقضاة. في الاحوال كافة يبقى جيمس انسور حالة فريدة في تاريخ الفن، حتى وإن كان في الامكان ضمه بسهولة الى التيار التعبيري في شكل أو في آخر، هو الذي كانت المناظر الطبيعية التي رسمها خلال مرحلة اولى من حياته، وغالباً تحت تأثير الانكليزي تيرنر، تتأرجح بين واقعية مطلقة وانطباعية نسبية. غير ان فن انسور سرعان ما شهد تحولاً جذرياً عند نهاية القرن التاسع عشر، ليتخذ ذلك الطابع السيكولوجي الجواني، ممتزجاً بمواضيع دينية ركزت في معظمها على شخص السيد المسيح، انما في تعابير شديدة المعاصرة، كما يتجلى الامر بخاصة في لوحتين شهيرتين من لوحات هذا الفنان:"دخول المسيح الى بروكسل"و"دخول المسيح الى القدس".. وهما لوحتان متقاربتان، لا تعبران في الحقيقة عن موضوع ديني خالص، بقدر ما تعبران عن رغبة الفنان الخاصة في قول رعبه امام الكون والوجود. غير ان ثمة من بين لوحات انسور واحدة رسمها، تحديداً، في العام 1899، وتعرف باسم"بورتريه ذاتي مع اقنعة"، تتميز بكونها، اكثر من أي عمل آخر لهذا الفنان، تكشف علاقته المباشرة بذاته وبفنه وبالناس من حوله، ناهيك بعلاقته بالموت. حين رسم جيمس انسور هذه اللوحة كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان في العام السابق قد اقام اول عرض خاص لأعماله في"صالون المئة"في باريس، وكان قد آلمه ان ذلك المعرض لم يثر اية ضجة، بل ظل من دون صدى... وكذلك كانت حال العدد الخاص الذي اصدرته، في تلك الآونة بالذات، مجلة"لا بلوم"الريشة الباريسية عن اعمال انسور. كان هذا ازاء ما يحدث له يتساءل: هل أفلت شمسه بعدما كانت لوحات سابقة له لفتت الانظار وبدأت تكرسه سيداً في مجاله؟ الجواب الذي لم يتوصل اليه انسور في ذلك الحين كان بسيطاً: ان اعماله حتى وإن لفتت الانظار بتركيباتها وألوانها، تفتقر الى وضوح البعد الذاتي، الذي حتى إن وجد، فإنه كان يوجد في الموضوعات والاجواء العامة، المجابهة بينه وبين العالم كانت تتم بالمواربة. وكان عليه ان يظهر تلك المجابهة في شكل مباشر. ومن المرجح ان اللوحة التي نحن في صددها، انما هي الترجمة - غير الواعية من جانبه - لتلك الانعطافة التي كانت علاقته بعمله قد بدأت تعيشها. مهما يكن من أمر، فإن الاقنعة لم تكن، في ذلك الحين، أمراً جديداً بالنسبة الى لوحاته... الجديد هنا كان وضع وجهه في مكان بارز من اللوحة من دون اقنعة: انه الوحيد بين عشرات الوجوه المقنعة في اللوحة الذي يظهر كما هو... واذا كانت بقية الوجوه تحدق في الرسام، وبالتالي في المشاهد، فإن نظراتها تبدو سقيمة باردة محايدة لأن العيون التي تطل من خلف الاقنعة تبدو اقنعة بدورها. اما هو - انسور - فإنه ينظر مباشرة وبقوة ايضاً، في اتجاه المتفرج، كما الحال، مثلاً، في لوحات عدة لبيلا سكويث، تظهر فيها شخصيات تنظر الى المتفرج والى الرسام مباشرة، وفي معنى اتهامي تلوح فيه نظرة من قبض على متلصص بالجرم المشهود وهو يمارس تلصصه. هنا لدى انسور يبدو المعنى نفسه واضحاً، ولكن بما ان البورتريه ذاتي، ومن ينظر الى الرسام - المتلصص، هو الرسام نفسه، نصبح امام لعبة مرايا شديدة القوة والحذق. ان نظرة انسور المتفرسة، بحزن، في من يرسم أو يشاهد، نظرة شديدة الخصوصية، لكن هذا البعد فيها يزداد حدة وقوة من حيث ان صورة الرسام بقبعته الغرائبية، تبدو محاطة ليس فقط بأقنعة بل ايضاً بوجوه لموتى وضعوا في خلفية اللوحة، بحيث يبدون متكاملين مع الأحياء المقنعين، ويبدو الرسام محاصراً بين الفريقين، انما من دون ان تبدو عليه اية رغبة في الاستسلام لهذا الحصار. من ناحية ثانية، وانطلاقاً - بخاصة - من لعبة المرايا التي تهيمن على هذه اللوحة، يبدو لنا الفنان وكأنه راغب في التعبير هنا عن الوجود كلعبة، وتحديداً كلعبة تبادل الادوار - تتكامل تماماً مع لعبة المرايا - فهو، أي انسور، يبدو وكأنه يمثل دور سلفه الرسام الكبير روبنز - وهو ما يؤكده التطابق في التكوين والثياب والنظرة، بين انسور هنا، وبين روبنز كما يظهر من خلال بورتريه ذاتي له معروض في متحف تاريخ الفن في فيينا -. والحقيقة ان هذه لم تكن المرة الاولى التي يجعل فيها جيمس انسور من بيتر بول روبنز موديلاً له، اذ نعرف انه كان قد رسم لنفسه بورتريهاً ذاتياً آخر، اقرب في تكوينه الى تكوينات روبنز واللوحة تعرف باسم"انسور بقبعة ذات زهور"، لكن الاساس هذه المرة ليس البورتريه الذاتي، وانما العالم، الحي والميت، المحيط به والتهديد الواضح، والخفي الذي تبثه عشرات العيون في شتى زوايا اللوحة. في هذه اللوحة من المستحيل على المتفرج ان يفصل بين لعبة تبادل الادوار والمرايا، وبين السخرية القائمة فيها، وبين - اخيراً - موضوعة موقع الذات في العالم. اما بالنسبة الى الاقنعة ودورها - في هذه اللوحة، كما في لوحاته الكثيرة الاخرى - فإن الرسام نفسه وفر علينا مشقة البحث والتنقيب، اذ قال مرة - حول دلالة القناع في عالمه الخاص -:"لقد اخترت بنفسي ان أنفي ذاتي - بكل سرور ورضى - وسط تلك الوحدة التي يهيمن عليها القناع، بكل ما فيه من عنف يعززه ضوء قوي وزهو بديع. القناع، بالنسبة الي، ليس سوى طزاجة الموقف، والتعبير القلق، والديكور الفسيح، والوقفة غير المتوقعة، والحركة التي لا يعيقها معيق... والقلق الواضح الذي لا يوقفه شيء". والحقيقة ان هذه اللوحة التي تحمل كل هذه الدلالات، تعتبر من ابرز اعمال جيمس انسور 1860 - 1949، عند منعطف اساس في حياته، تلك الاعمال التي رأى مؤرخو الفن في القرن العشرين، ان ألوانها الحادة والشديدة التعبير قد مارست تأثيراً كبيراً في معظم أعلام المدرسة التعبيرية - والالمان منهم في شكل خاص - كما ان ابتكاراته الغريبة والغرائبية قد ألهمت السورياليين، خصوصاً حين كانت تبدو مقابرية مرتبطة بعالم الموتى. وأنسور ولد ومات في مدينة اوستاند البلجيكية... وهو بدأ ممارسة الرسم طفلاً قبل ان يلتحق بمدرسة اوستاند للفنون الجميلة، ثم باكاديمية بروكسل.. وهو بدأ عمله بلوحات داخلية الديكور معتمة وقاتمة ثم انتقل الى مشاهد طبيعية اقرب الى الانطباعية، ثم كانت رحلة الى انكلترا تعرف خلالها الى تورنر، ما احدث انقلاباً جوهرياً في رؤاه وفنه. والجدير ذكره هنا هو ان اعمال انسور الكبيرة رسمت قبل نهاية القرن التاسع عشر، وأن ملكة الخلق لديه وهنت خلال الخمسين سنة الاخيرة من حياته، الى درجة ان تواريخ الفن تنسبه الى القرن التاسع عشر، على رغم انه عاش حتى منتصف القرن العشرين.