ليس هناك حديث في الغرب عن المال والأعمال إلا وتذكر فيه الأرباح التي تعد سابقة والتي حققتها شركات النفط الكبرى كبار النفط كما يسمون العام الماضي نتيجة ارتفاع الأسعار. وإذا كانت الدول المصدرة، خصوصاً الخليجية، نالت حظها من عدم الرضى عن عائداتها التي زادت بعشرات البلايين من الدولارات، فقد جاءت أرباح الشركات لتفتح عيون الجماهير في الدول المستهلكة دهشة. فالشركات الثلاث الكبرى في الولاياتالمتحدة حققت أرباحا مجمعة بنحو 63 بليون دولار العام الماضي، وهو رقم غير مسبوق. وحققت اكبر شركات النفط العالمية من حيث القيمة السوقية،"اكسون موبيل كورب"، أرباحاً عن عام 2005 تفوق 36 بليون دولار هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ الشركات الأميركية. كما حققت ثالث اكبر شركات النفط العالمية، البريطانية - الهولندية"رويال داتش شل"أرباحاً غير مسبوقة وصلت إلى 23 بليون دولار، لتصبح أول شركة بريطانية تحقق اكثر من 20 بليون دولار أرباحاً سنوية. وفي وقت يعاني المستهلكون في الدول الصناعية الكبرى، التي توجد فيها تلك الشركات الكبرى، ارتفاع أسعار البنزين وزيت التدفئة، التي تبرر بارتفاع أسعار النفط الخام، تحصد الشركات التي تسوق هذا الخام أرباحاً طائلة غير مسبوقة. وتزداد حالة عدم الرضى عندما تقسم الرقم السنوي للربح الصافي على أيام العام وساعاته لتجد أن"شل"تربح اكثر من 2.5 مليون دولار في الساعة، بينما يقترب ربح"اكسون"من 4 ملايين دولار في الساعة. ولا ينفع هنا تكرار وسائل الإعلام حقيقة أن القدر الأكبر من سعر المشتقات البترولية للمستهلك إنما هو عبارة عن رسوم وضرائب تحصلها حكومات الدول الصناعية المستهلكة نحو النصف في أميركا ونحو الثلثين في أوروبا. بل إن أرقام الأرباح السنوية، ما بين الكلية والصافية، توضح كم تدفع تلك الشركات لخزينة الدول. فعلى سبيل المثال فاقت أرباح"شل"الإجمالية العام الماضي 40 بليون دولار، لتصل بعد تسديد الضرائب والرسوم إلى ال23 بليوناً. لكن ربما تكون حسابات الأداء العام لشركات النفط الكبرى اكثر قرباً للواقع الذي قد يخفف الدهشة تجاه تلك الأرباح التي تبدو خرافية. فعائدات شركة"اكسون موبيل"للعام الماضي قاربت 400 بليون دولار، أي ما يفوق تقديرات إجمالي الناتج المحلي السعودي التي تدور حول 340 بليون دولار. كما أن عائدات"شل"للعام بلغت 379 بليون دولار. معنى ذلك أن صافي أرباح الشركة لا يزيد عن 6 في المئة من عائداتها، أي أنها من كل دولار أدخلته كسبت ستة سنتات ربحاً. وتلك نسبة لا تختلف كثيراً عن إيداع أموالك في أي مصرف، وهي لا تقارن بأرباح شركات كثيرة في مجالات أخرى في مقدمها شركات الاستثمار والخدمات المالية. ناهيك عن أن تلك الشركات توزع أرباحاً على مئات آلاف المساهمين والعاملين في دول عدة. ومن بين أسباب الربحية العالية لشركات النفط الكبرى، إلى جانب ارتفاع أسعار النفط طبعاً، أن غالبية تلك الشركات أجرت عمليات إعادة هيكلة قاسية في نهاية القرن الماضي عندما انهارت أسعار النفط عام 1998 ليصل سعر البرميل إلى اقل من 10 دولارات. وتضمنت إعادة الهيكلة تقليص النفقات وزيادة كفاءة التشغيل. وجاءت الزيادة في أسعار النفط بأربعة أو خمسة أضعاف لتزيد من أرباح الشركات الكبرى تلك. إلا أن ما قد يواسي الجماهير هو أن تلك العائدات السخية ليست مضمونة لأجل طويل، فمعظم الشركات لا تستطيع زيادة احتياطاتها وإنتاجها، بل إن بعض الحقول الضخمة التي كانت مفخرة قطاع الطاقة لدى اكتشافها قبل عقدين أو ثلاثة بدأت في النضوب. فشركة"شل"مثلاً بدأت بالفعل في بحث خطط إغلاق حقل برنت البريطانية في بحر الشمال، التي ظلت لسنوات تنتج الخام القياسي الأوروبي. وتلك حالة عدد كبير من الآبار الرئيسة في العالم. وعلى شركات النفط الكبرى أن تخصص جزءاً من أرباحها لعمليات استكشاف وتنقيب جديدة، إذا كان لها أن تحافظ على أدائها عند معدلات تضمن حماية المساهمين وعدم تسريح آلاف العاملين فيها. وحين يتحدث البعض الآن عن انتهاء عصر"النفط الرخيص"، فليس المقصود فقط أسعار النفط في السوق، بل أيضاً كلفة استخراجه مع قرب انتهاء أيام كان يتفجر الخام من باطن الأرض من دون حاجة لتدخل كبير أو تكنولوجيا زيادة الضغط في الحقول بحقن المياه أو غير ذلك. وكل التطورات ترفع كلفة الإنتاج التي تقلل من أرباح الشركات، حتى لو حافظت على معدل العائدات من المبيعات. * كاتب اقتصادي.