عندما تطلعت إلى مئات الوجوه المصرية والعربية والأجنبية التي امتلأت بها قاعة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، وذلك للاحتفال بصدور الكتاب رقم ألف الذي نحتفل به مع افتتاح مؤتمرنا الدولي عن الترجمة ومجتمع المعرفة - شعرت بالفرحة والفخر والأمل: الفرحة لتحقق الحلم الذي بدا بعيد المنال عندما شرعنا في تنفيذه منذ عشر سنوات، والفخر بقيمة الإنجاز الذي تحقق بفضل الشباب الذين عملوا تحت إشرافي، وكانوا نعم العون، وخير دافع، خصوصاً في اللحظات التي كان يهاجمني فيها الإحباط نتيجة العوامل البيروقراطية، ونقص التمويل، وعدم استيعاب الأجهزة الإدارية لمعنى المشروع. وأعترف أن إحباطي كان يذهب سريعاً عندما كنت أتطلع إلى الوجوه الشابة التي ظلت تعمل معي من دون ملل أو كلل، مملوءة بالعزم والإصرار والحماسة التي كانت تعديني بتوهجها، فأترك إحباطي شيئاً فشيئاً، واستبدل به ما ظللت أستمده من هذه الوجوه الشابة التي لولاها ما استمر المشروع وما وصلنا إلى ترجمة الكتاب الألف. أما الأمل فلأنني وجدت في ما أنجز حافزاً على المضي في الإنجاز، والانتقال من الألف الأولى إلى الألف الثانية التي أخرجنا منها كتابين في الأيام القليلة الماضية. وقد ازداد أملي بفرحة الحضور وحماسة كبار المسؤولين الذين وعدوا بتقديم الدعم المالي الذي يمضي بالمشروع إلى نهايته. وتزايد الأمل مع رؤية الأجيال المتعددة من المترجمين والمترجمات، والمهتمين والمهتمات بالترجمة الذين التقوا في أكبر مؤتمر دولي، انعقد في العالم العربي لتشجيع حركة الترجمة، والنهوض بها والتخطيط لمستقبلها. وبدأت كلمتي إلى هذا الجمع الحاشد بتأكيد أن ازدهار حركة الترجمة علامة أساسية من علامات مجتمع المعرفة وحيويته. ولذلك يقاس تقدم الأمم وتخلفها بالمنحنى الصاعد أو الهابط لعمليات الترجمة وفاعلية مؤسساتها وأجهزتها. ولقد تخلفنا طويلاً في هذا المجال، وكانت النتيجة عدم اللحاق بقاطرة التقدم الإنساني التي خلفتنا وراءها ومضت في طريقها الصاعد الذي وصل إلى آفاق غير مسبوقة. ولا أدل على ذلك من أن نصيب كل مليون مواطن عربي من الكتب المترجمة يصل إلى كتاب واحد تقريباً، بينما يصل إلى مئتين وخمسين كتاباً لكل مليون مواطن في إسبانيا. ولم أرد أن أمضي في ذكر إحصاءات سلبية، محزنة، معروفة، عن واقع الترجمة في عالمنا العربي، فلم يكن هدفي إيلام الحضور والإضافة إلى حزنهم، خصوصاً أنهم ليسوا السبب في ما نعانيه من تدهور حركة الترجمة التي يعود سببها إلى تقاعس حكومات العالم العربي الذي لا يزال شحيحاً في كل ما يتعلق بشؤون الثقافة ومجالاتها، وعلى رأسها أنشطة الترجمة، ذلك على رغم الثروات الهائلة لبعض أقطار هذا العالم، وعلى رغم أن المادة السابعة من المعاهدة الثقافية التي وقعتها الدول العربية سنة 1954 تنص على:"تنشيط الجهود التي تبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهود"، وهي المادة التي سرعان ما تحولت إلى حبر على ورق، وتدهورت أحوال الترجمة بما وضعنا في ذيل قائمة الدول المترجِمة، وجعل غيرنا من الدول التي كنا نسبقها بكثير - منذ عقود قليلة - تسبقنا مرات ومرات بما يثير الحسرة، والغيظ في آن، خصوصاً أننا ننتسب إلى الحضارة التي بدأت النهضة الأوروبية من ترجماتها عن علوم العالم القديم ومن ترجمة كتبها في فروع العلوم العربية المختلفة. وكلنا يعرف أن النهضة الأوروبية بدأت من ترجمة تراث الفارابي وابن سينا وابن رشد، وأن هذه النهضة انطلقت من حيث توقفنا، فتحققت النهضة الأوروبية ومضت في طريقها الصاعد بينما دخل العالم العربي نفقاً مظلماً مسدوداً من الجهالة والتعصب والعداء للعقلانية والعلم والاجتهاد. وجاءت النهضة في العصر الحديث بأمل اللحاق بركب التقدم، وتعددت المحاولات التي تستحق التقدير والاحترام، ولكن التي لم تكتمل قط ولم تصل إلى النهاية التي تزيل وصمة التقصير أو التخلف عن ثقافاتنا في ما يتصل بالترجمة. ووعياً بهذا الوضع المخجل، وتحدياً له في الوقت نفسه، انبثق المشروع القومي للترجمة منذ عشرة أعوام، وذلك ليضيف إلى المشروعات القائمة قوة دفع حيوية، ويمضي بالجهود السابقة المبتورة إلى ما يمكن أن يكون بداية جذرية لنهضة عفية، تبدأ من الترجمة، وتجاوزها إلى المجالات المرتبطة بها، والمترتبة عليها، مدركين أننا نعيش في العالم الثالث الذي لا يمكن تحقيق أي حلم من أحلام التقدم فيه إلا بدعم كامل من مشروع شامل للترجمة في كل مجال من مجالات الحياة التي نسعى إلى تغييرها وتطويرها. وكان علينا أن نبدأ من حيث انتهت المشروعات السابقة، ولكن بما يتدارك السلبيات، ويتطور بالإيجابيات، وابتدأ ذلك بوضع خطة شاملة للعمل، أسهمت فيها اللجان المختصة في المجلس الأعلى للثقافة، ونشرنا هذه الخطة كتاباً، طبعته الهيئة المصرية العامة، بإشراف المرحوم لمعي المطيعي، وعمل الخبراء على تنقيح الخطة وتطويرها بما جعل منها استراتيجية عمل متكاملة، تتجسد بها الرؤية الشاملة للمشروع وتحقق أهدافه، وذلك من خلال الالتزام بعدد من القواعد الأساسية، جعلناها بمثابة الوصايا العشر التي حرصنا على الالتزام بها وعدم البعد عنها. وتتمثل هذه القواعد في ما يلي: أولاً: المرونة في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما لا يغلق أفق الحركة، ويفتح الباب للإضافة المستمرة التي تستوعب الجديد الذي يضيف إلى المخطط الأصلي، ويواكب المتغيرات المعرفية المتدافعة في عوالم التقدم، وفي الوقت نفسه، يفتح أبواب المبادرة الفردية للمترجمين. ثانياً: الترجمة عن لغة الأصل مباشرة، وعدم الاعتماد على اللغات الوسيطة، تحرياً للدقة، وتأكيداً للأمانة، وحرصاً على تمثيل روح الأصل وعلاقاته الدلالية. ولست في حاجة إلى تأكيد أن جانباً كبيراً من خلل إنجازات حركة الترجمة العربية إلى اليوم انها لا تزال تعتمد على لغة وسيطة في حالات كثر، وأنها لا تعتمد على لغة الأصل إلا في أضيق نطاق. ثالثاً: الخروج من هيمنة اللغة الواحدة، أو الاقتصار على اللغات الأوروبية المعروفة التي كان لا بد من الإضافة إليها، وعدم الاقتصار عليها، تأكيداً لمبدأ التنوع الثقافي الخلاّق الذي تتبناه منظمة اليونسكو، والذي تمثل في تقريرها الرئيسي"تنوعنا الخلاق"، وقد ترجمناه ضمن كتب المشروع بعنوان"التنوع البشري الخلاّق". وأضيف إلى ذلك ضرورة تفعيل مبدأ عبور الانقسام الذي أصبح شعاراً للأمم المتحدة، وعنوان كتاب من أهم كتبها في السنوات الأخيرة. ولعل بعض قراء"الحياة"يذكر لعرضي لهذا الكتاب وتحليلي لمحتواه. رابعاً: تأكيد وحدة الثقافة الإنسانية وتنوع فروعها ومجالاتها البينية، وذلك بما يشمل الفنون والآداب والعلوم الطبيعية، جنباً إلى جنب العلوم الإنسانية والاجتماعية. لقد ذهب إلى الأبد زمن الاقتصار على الآداب، وتعاظم يوماً بعد يوم الوعي بأهمية التوازن بين الآداب والفنون من ناحية والعلوم الاجتماعية والإنسانية من ناحية ثانية، والعلوم الطبيعية والعملية من ناحية أخيرة، ففي تفاعل هذه الجوانب، والتوازن بينها، يكمن سر من أسرار التقدم والحضارة. ولا أدل على ذلك من أن أكثر الدول المتقدمة ترجمة للآداب هي في الوقت نفسه أكثر الدول ترجمة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، والعلوم الطبيعية والتطبيقية، وذلك بما يكمل الزوايا الثلاث لمثلث التقدم الذي لا غنى عنه للإيغال في عوالم التطور وتفعيلها. خامساً: تمثيل التلازم العضوي بين وجهي الأصالة والمعاصرة في الثقافة الإنسانية، وذلك بترجمة الأصول المعرفية التي لا غنى عنها لتأسيس أي نهضة، في موازاة ترجمة المعارف الإنسانية التي تضعنا في قلب حركة العصر، ولكن من دون أن تتنكر لميراث الإنسانية العظيم. سادساً: توسيع هوامش الحرية الفكرية بترجمة التيارات والاتجاهات التي قد نختلف معها، أو يحجر عليها غيرنا، لكنها أصبحت من سمات العصر ولوازمه، شئنا ذلك أو أبينا. لقد انقضي زمن الحجر على المعرفة في الكوكب الأرضي الذي تحوّل إلى قرية كونية، وأصبحت المعرفة متاحة لكل راغب عبر شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال المعاصرة التي لم يعد يجدي معها دفن الرؤوس في الرمال، أو فرض الوصاية على القراء والقارئات. وما أكثر ما عاناه المشروع القومي للترجمة، وما عانيته شخصياً، على امتداد السنوات العشر الماضية من تهم التكفير التي لا تزال تتردد على ألسنة المتطرفين والمتعصبين وذوي الأفق الضيقة، ومن الأصوليين اليمينيين واليساريين، بل وصل إلى تقديم شكاوى وبلاغات للأمن من بعض عمال المطابع المتعصبين دينياً، ومن بعض الكارهين للفكر الجديد. ولا تزال في ذاكرتي عشرات من الوقائع والأحداث التي تستحق أن تروى. سابعاً: تأكيد الصفة القومية للمشروع بتوسيع دوائر المشاركة للمترجمين المتحمسين على امتداد الأقطار العربية، وتجسيداً لمعنى أساسي من معاني وحدة الثقافة العربية. ثامناً: تأسيس شبكة قوية من العلاقات مع دور النشر في العالم، تقوم على أساس احترام حقوق الملكية الفكرية والحفاظ عليها، تأكيداً لالتزام مصر بالاتفاقات الدولية، ودعماً لثقة ناشري العالم في توجهاتنا الفكرية والتزاماتنا المالية. ويعلم كثيرون أن عدم احترام حقوق الملكية الفكرية آفة من الآفات الشائعة بين دور النشر العشوائية، وما أكثرها، وقس عليها غيرها من دور النشر التي لا تزال ترى في الكتاب الأجنبي غنيمة بلا صاحب أو حقوق. تاسعاً: توسيع إمكانات التعاون مع الهيئات الأجنبية في مصر. وهو الأمر الذي منحنا بعض الدعم المادي في تحمل مكافآت المترجمين، كما أدى إلى ظهور ترجمات عدة بالتعاون مع الأقسام الثقافية التابعة للسفارات الفرنسية والإسبانية واليونانية والإيطالية والألمانية والنرويجية والصينية وغيرها من سفارات الشرق والغرب. عاشراً: رفع قيمة المكافأة المالية للمترجمين إلى معدلات غير مسبوقة، وتشجيع المترجمين بإنشاء جوائز للترجمة، مع الاهتمام بتدريب الأجيال الجديدة وتأكيد حضورها الواعد. وقد واكبت القواعد السابقة ثلاثة مبادئ ملازمة، كان لا بد من تأكيدها والعمل على أساسها. أولها: الاقتران الواجب بين القيمة المضمونية للكتاب المترجم والجودة المقترنة بالإخراج الفني والتقني، فلا معنى لترجمة أهم الكتب فكراً، وإخراجها إخراجاً رديئاً يخلو من الجمال، ويتحول إلى مثال للقبح. وثانيها: التعلم من الأخطاء التي كان لا بد أن تقع عبر الممارسة الفعلية، وتصويبها باستمرار، والإفادة من النقد البناء الذي لا يزال يدفعنا إلى تصحيح المسار وتعميق التوجهات. وأشهد أن النقد الذي تلقيناه عبر السنوات الأولى، خصوصاً المرتبط بكثرة أخطاء التصحيح، جعلنا نبذل الكثير من الجهد في رفع مستوى التصحيح وتدقيقه ولا أظن أننا قد وصلنا إلى الدرجة التي أرضى عنها شخصياً، لكن الوضع يتحسن باستمرار. وثالثها: التنسيق مع بقية قطاعات وزارة الثقافة، وعدم تكرار جهودها، خصوصاً في القطاعات التي تشاركنا الاهتمام بالترجمة والإنجاز فيها، وأهمها إدارة مهرجان المسرح التجريبي التي يشرف عليها باقتدار زميلي فوزي فهمي الذي استطاع ترجمة مكتبة متكاملة في فنون المسرح، وذلك إضافة إلى محاولة زميلي سمير سرحان التي لم تكتمل لإصدار ما أطلق عليه الألف الثانية. وكانت نتيجة العمل الدؤوب باهرة، ومفرحة إلى درجة كبيرة، وأولها خلال السنوات العشر الماضية، إكمال ترجمة الكتاب الألف، وثانيها عدم الاكتفاء بذلك، بل مجاوزة الرقم ألف بما يغدو دليلاً على نية الاستمرار. ولا تزال حماستنا متوهجة بالوصول إلى هذا الرقم الذي يحققه أول مشروع عربي للترجمة، وذلك للمرة الأولى على امتداد تاريخنا الحديث، وكانت البداية مشروع النهضة الأولى الذي انطلق في عصر محمد علي ونهض به رفاعة الطهطاوي وتلامذته في مدرسة الألسن التي تأسست سنة 1836، وهو المشروع الذي وصل بعدد الكتب المترجمة في العصر كله الذي استمر ما يزيد على أربعين عاماً إلى ما لا يزيد على 191 كتاباً. وكانت النهاية قرينة مشروع الألف كتاب الذي اقترن بجيل طه حسين، وهو المشروع الرائع الرائد الذي لم يصل إلى الرقم ستمئة قبل توقفه. أما المشروع القومي للترجمة، فقد أنجز حلم جيل طه حسين، وأضاف إلى جانب مجاوزة الرقم الألف حقائق وأرقاماً، تفرح كل مهتم بحركة الترجمة، وكل متابع لتيارات الثقافة، ويسعدني - في هذا المجال - تأكيد ما يلي: أولاً: جاوز عدد اللغات المترجم عنها ثماني وعشرين لغة، منها لغات يتم الترجمة عنها للمرة الأولى، سواء في اللغات الأوروبية المهمشة، مثل الفنلندية والصربية والأرمينية والبولندية والتشيكية والمجرية، وذلك جنباً إلى جنب اليونانية القديمة والحديثة واللاتينية. وكان ذلك في موازاة الترجمة عن اللغات الافريقية غير المعروفة مثل السواحيلية والهوسا والحبشية أو الأمهرية، فضلاً عن الهيروغليفية. ولم تنفصل عن ذلك الترجمة عن اللغات الآسيوية التي لم يسبق الاهتمام بها في الترجمة إلى العربية، من مثل التركية والتركمانية والبشتوية والفارسية والصينية واليابانية والسريانية القديمة. ثانياً: تأكدت قومية المشروع باشتراك مترجمين من عشرة أقطار عربية فلسطين، لبنان، سورية، العراق، السعودية، المغرب، الأردن، الإمارات، الجزائر، الكويت. ثالثاً: بلغ عدد المترجمين والمراجعين ما يجاوز الستمئة، واشترك أكثر من خمسين فناناً في تصميم الأغلفة، ومنهم شباب أتاح لهم المشروع الظهور الواعد للمرة الأولى. رابعاً: ضم المشروع أكثر من سلسلة، تُعد كل واحدة منها نواة لمكتبة متخصصة في فروع المعرفة المختلفة، وأقطارها القديمة والحديثة. خامساً: احتفى المشروع بأعمال الرواد العلامات، وذلك بإصدارها في سلسلة بعنوان"ميراث الترجمة". أولاً: لإبقائها حية في الذاكرة الثقافية، وثانياً: تقديراً لقيمتها التاريخية ومكانتها التي لم تفقد ألقها.