اجتاز لبنان قبل ايام"قطوعا"ً خطيراً كاد يقضي على وحدته الوطنية، ويعيده الى زمن الحروب الطائفية العبثية، لولا تدارك القيادات الاسلامية التي هزّها التعرض لمنطقة الاشرفية وما نتج عنه من تخريب للممتلكات العامة والخاصة واعتداء على الاماكن الدينية، وحكمة القيادات المسيحية التي أبدت قدراً عالياً من الوعي لعدم الانزلاق في الفخ الذي نصبه أعداء لبنان ليصيب مقتلاً في العيش المشترك بين ابنائه، وثمّن الجميع ضبط النفس الذي أبداه أهالي الاشرفية بعدم الانجرار وراء الفتنة المرسومة والمعدة للتنفيذ في ذلك اليوم المشؤوم. كانت الغاية المعلنة من التظاهرة التعبير عن استنكار المسلمين واستيائهم من الرسوم المهينة بحق الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم، والتي نشرتها صحيفة"يولاند بوستن"الدنماركية قبل شهور. والتظاهر حق من حقوق التعبير عن الرأي التي يكفلها القانون، ولكن ضمن حدود احترام حرية الآخرين وعدم ازعاجهم والتعدي عليهم وعلى ممتلكاتهم، او التعرض للمقامات الدينية. وقد عبّر معظم الشعوب الاسلامية عن سخطه لنشر الرسوم البذيئة بطرق حضارية وراقية تمثلت في تظاهرات سلمية ومقاطعة البضائع الدنماركية، فيما كان التعبير في لبنان, وقبله في سورية, غوغائياً. وشوّهت التصرفات المشينة للمتظاهرين في شوارع الاشرفية الصورة البهية للاسلام، وأساءت الى القضايا العربية والاسلامية المحقة خصوصاً القضية الفلسطينية. تعامل المسلمون مع الرسوم الدنماركية بشدة وهذا حقهم، وكان عليهم في الوقت نفسه الدخول الى عقول الدنماركيين وسائر الاوروبيين بواسطة الاعلام الواعي والمدروس لتبيان حقيقة شخصية رسول الله ص وأخلاقه، وتعريفهم بمبادئ الاسلام السمحة، وعدم ترك الشوارع مرتعاً للمتهورين والموتورين والمخربين الذين يتصرفون عكس تعاليم الاسلام الحنيف فيسيئون اليه والى الرسول الكريم أشدّ الاساءة. وفي قراءة هادئة لما جرى في الاشرفية، لا بدّ من تدوين ملاحظات حول تلك التظاهرة الاعتراضية, ومنها: 1- تعدد الجهات الداعية اليها، وغياب التنسيق في ما بينها، وتكمن مسؤوليتها في عدم ضبط الاوضاع وترك الامور للمندسين والمشاغبين. 2- اختيار المكان الخطأ للتجمع، وهو ساحة التباريس في منطقة الاشرفية ذات الغالبية المسيحية للسكان، وكان من المفترض اختيار مكان آخر لا يثير حساسية أو توترات طائفية في حال حدوث أي خلل امني. اذ ان لبنان لا يزال في طور النقاهة واسترداد العافية واللحمة الوطنية، والمتربصون بوحدته كثيرون ويعملون على زعزعة الامن والاستقرار فيه، وهم منزعجون من الوفاق الوطني الذي تعزز بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حيث وقف المسلمون في ساحة الحرية كتفاً الى كتف بجانب اخوانهم المسيحيين ابان انتفاضة الاستقلال، وتوصلوا بنضالهم المشترك الى استعادة استقلالالهم وقرارهم الحر. وكان على المنظمين من اصحاب الرؤية الواعية اعتماد مكان آخر للتجمع والتظاهر والتعبير عن مشاعرهم بالخطابات، ويتوجه بعدها وفد منهم بمواكبة القوى الامنية الى مقر القنصلية الدنماركية لتعليق بيان الاستنكار على ابوابها. 3- اجمع المسلمون والمسيحيون في لبنان والعالم على استنكار الرسوم المشينة والاهانة الموجهة الى نبي المسلمين، وبما ان لبنان يمتاز بالتعايش الاسلامي - المسيحي, كان الاجدى بالمنظمين الدعوة الى تظاهرة مختلطة يتقدمها رجال دين مسلمون ومسيحيون ويشارك فيها ابناء الوطن من الطوائف كافة. ولو حصلت تظاهرة كهذه, لكانت أعطت العالم صورة زاهية عن العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين. 4- اظهرت السلطة السياسية عدم ادراك لخطورة تداعيات أي حادث أمني قد يحصل من تظاهرة غير منظمة، ولو ان تصرفها بعد حدوث التطورات الخطيرة كان في مستوى المسؤولية وعلى درجة كبيرة من الوعي، ويا ليتها تصرفت بهذا الشكل قبل حدوث التخريب. والدولة لا تزال غير قادرة، وتعاني من الشلل بسبب الانقسامات السياسية والولاءات الاقليمية والاختراقات الامنية، واربك قرارها السياسي المرتبك القوى الامنية والعسكرية الضعيفة والعاجزة عن التصدي الفاعل والمجدي لأي خلل أمني كبير. 5- التعمية على الذكرى الاولى لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، وتوجيه ضربة قوية الى فريق 14 آذار لفك التحالف الاسلامي - المسيحي، وابعاد المسيحيين عن المسلمين. ونتمنى ان تكون حساباتهم خاطئة، فدماء الرئيس الشهيد التي روت ارض الوطن وكانت السبب الرئيس في استعادة الاستقلال والقرار الحر، غالية عند المسيحيين كما هي عند المسلمين. * كاتب لبناني