بات تحويل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن مسألة وقت فقط. فمنذ إعلان طهران نيتها استئناف تخصيب اليورانيوم وفضها الأختام في منشأة ناتانز، وحتى ظهور الاصطفاف الدولي المناوئ لطموحاتها النووية بهذا القدر الكبير من العزم، دارت عجلة المواجهة بسرعة فائقة. قريباً، وربما أسرع مما يتوقع كثيرون، قد تدق الساعة الدولية معلنة حلول ذلك الاستحقاق، بعد استيفاء الخطوات الشكلية اللازمة مثل ضمان صدور تقرير من مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤيد نقل الملف إلى مجلس الأمن. عندها سينفتح الباب واسعاً أمام صدور قرار يهبط بالوضعية القانونية لإيران من وضع الدولة العضو الكامل الصلاحيات في المجتمع الدولي إلى مستوى الدولة المعاقبة بموجب قرارات الشرعية الدولية. ولأن مجلس الأمن ليس منتدياً للحوار الديبلوماسي، بل أرفع المؤسسات القانونية التي تمثل الشرعية الدولية، وله وحده الحق في تقرير الآليات المناسبة لعقاب الدول، يعد تحويل ملفات الدول إليه نقلة فارقة في وضعيتها القانونية. تنكشف إيران أمام رياح القرارات الدولية بمقتضى تحويل ملفها النووي إلى مجلس الأمن"وتنضم في ذلك إلى تحالفها الإقليمي الذي يضمها مع سورية و"حزب الله"، وهو ما يطوق كل أطراف هذا التحالف بقرارات دولية، ويدشن سابقة هي الأولى ربما في تاريخ العلاقات الدولية. وتطرح هذه النقلة وتلك السابقة تساؤلات جدية حول مستقبل هذا التحالف الإقليمي، فضلاً عن التطورات المحلية في كل من إيران وسورية ولبنان. صحيح أن"حزب الله"ليس دولة بالمعاني السياسية والقانونية، لكن هناك ستة قرارات من مجلس الأمن تشير إليه من دون أن تذكره بالإسم، وهي القرارات 1496 2003 الذي يطلب من الحكومة اللبنانية توسيع نطاق التدابير الخاصة بإعادة بسط سلطتها في الجنوب، والقرار 1525 2004 الذي يشدد على مطلب بسط الحكومة اللبنانية لسلطتها في الجنوب وعلى امتداد الخط الأزرق، والقرار 1553 2005 الذي يشدد على المطالب المذكورة في القرارين السابقين ويضيف إليهما مطلب نشر القوات المسلحة اللبنانية في أرجاء الجنوب. بعد ذلك جاء القرار 1559 2005 ليشكل تحولاً واضحاً في صياغة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والمنبثقة من اتجاهات القرار الدولي بخصوص الوضع اللبناني، إذ قرر المجلس حل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، وهو ما يستهدف سلاح"حزب الله"مباشرة. بعدها توالت القرارات السائرة على الطريق نفسه مثل القرارين 1583 2005 و1614 2005 اللذين أكدا على المطالب السابقة كلها. وبالترافق مع تلك القرارات شكل عام 2005 كارثة ديبلوماسية للنظام السوري، إذ صدرت خلاله أربعة قرارات دولية قلصت كثيراً من إمكانات حركته، فالقرار 1559 طالب دمشق بسحب قواتها من لبنان، وهو ما فعلته منهية وجوداً عسكرياً استمر زهاء ثلاثين عاماً. أما القرار 1595 2005 الخاص بإنشاء لجنة دولية للتحقيق في إغتيال الرئيس رفيق الحريري، ففتح الباب أمام مخاطر لم تشهدها سورية في تاريخها. فتأسيساً على التقرير الأول للجنة صدر القراران 1636 2005 و1644 2005 مطالبين بالتعاون الفوري وغير المشروط مع لجنة التحقيق. ضغوط متزايدة تتزايد الضغوط السياسية والديبلوماسية والإعلامية على محور إيران ? سورية ?"حزب الله" بأطرافه الثلاثة في سياقات متفاوتة محلياً، ومترابطة إقليمياً. ويعود التفاوت إلى حقيقة أن الملفات المطروحة على إيران تختلف عن تلك المطروحة على سورية أو"حزب الله"، وأن الأوزان النسبية للأطراف المشكلة لهذا التحالف تتفاوت في ما بينها. فإيران دولة إقليمية كبيرة وتمتلك قدرات عسكرية واقتصادية متعاظمة، وتسند مداخيلها من النفط والغاز طموحاتها الإقليمية. أما سورية فهي دولة محورية في جيو-ستراتيجيا الإقليم، لكن تجاربها التاريخية تدل على أن دورها المحوري المذكور لا يمكن أن ينهض إلا بتحالف إقليمي يضم إحدى القوتين: مصر أو العراق. وبغياب هذا الإسناد ? وهو الحال الآن - لا يرقى وزنها إلى مستوى الوزن الإيراني بكل أنواع المقاييس: القدرات العسكرية والاقتصادية والديموغرافيا والموارد. ويتولد عن غياب الإسناد المذكور حال من"ضياع الدور"السوري في المنطقة، خصوصاً مع عدم وجود مشاريع إقليمية عربية أخرى يمكن لدمشق أن تنخرط فيها. في هذا الإطار يمكن فهم الزيارة المقررة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى دمشق في الأيام القليلة المقبلة، والتي تليها زيارة رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني من أجل تدعيم الحلقة السورية في التحالف. "حزب الله": نفوذ واسع في المقابل، يملك الطرف الثالث في التحالف، أي"حزب الله"، نفوذاً واسعاً في لبنان عسكرياً وسياسياً، ويمثل احدى كبريات الطوائف اللبنانية، وهو"الشريك"الذي يصعب على أي حكومة لبنانية الاستغناء عنه. وقد نجح الحزب، من طريق تضحياته الهائلة، في إجبار إسرائيل على الإنسحاب من لبنان مسجلاً أول هزيمة لها في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي. وساهم هذا النجاح في تمكين إيران من تثبيت حضورها الإقليمي وتسويق الانجاز التاريخي للحزب بوصفه انتصارا لها أيضاً، بعدما نظمت ارتباطها التاريخي بجبل عامل جنوبلبنان مع هدف تمثيلها للشيعة في المنطقة، كما دمجت تحرير جنوبلبنان من الاحتلال الإسرائيلي في مشروعها الإقليمي أيديولوجياً وتعبوياً، وربطت تحالفها الإقليمي بالمصالح القومية الإيرانية، على توليفة قلّ مثيلها. وتأسيساً على كل ذلك يمكن رؤية"حزب الله"كاللاعب الثاني الأكثر قوة في التحالف. صارت"الرؤى الدولية"تنفذ إلى المنطقة من دون المرور ببواباتها الإقليمية التقليدية، في خضم الهجمة الدبلوماسية الدولية على التحالف الذي تقوده إيران. وفي غياب التحالفات الإقليمية المضادة، تكون البناء الصراعي للمواجهات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق العربي - خصوصاً في لبنان - من ثلاث طبقات يسقف بعضها بعضاً وتتأثر في ما بينها، في جدلية صراعية ذهبت بيرقاً انتظمت خلفه حسابات الاستراتيجية الشرق أوسطية. ووفق البناء الصراعي المذكور نسجت الأقطاب الدولية السقف الأول الخطوط العامة للصراعات المحلية على منوال التوازنات الدولية، في حين حبست القوى الإقليمية السقف الثاني فوائض القوة للسقف الأول ومررتها إلى الأطراف المحلية المتحاربة السقف الثالث. وتوخت القوى الإقليمية أن يكون تمرير فوائض القوة بمنسوب وشدة محسوبين على قياس مصالحها"تلك التي وجدت تعبيرها الأوضح في نتائج المعارك السياسية والعسكرية المختلفة على مسرح الأحداث المحلي. كانت المواجهات السياسية والعسكرية في لبنان، على الأقل منذ"التجربة الشهابية"في خمسينات القرن الماضي، ترمومتراً لا يخيب في قياس حرارة الأوزان الإقليمية ومن ورائها التوازنات الدولية. والآن، وبعد غياب البعد الإقليمي المواجه لإيران وتحالفاتها، وانكشاف الساحة الإقليمية أمام التحالف الأخير، أمكن رؤية بناء صراعي جديد في الشرق العربي متكون من طبقتين وخال من السقف الأوسط. هكذا أصبح ممكناً لأطراف محلية في لبنان، تقرأ المشهد السياسي الدولي جيداً، أن ترفض"مبادرات"مغطاة إقليمياً، معلنة وغير معلنة، وتتمسك بالمرجعية الدولية كمرجعية وحيدة لإدارة الصراعات المحلية. وأغفلت تلك القراءة الجيدة للمشهد أن الأطراف المحلية، بوصفها كذلك - ومهما أجادت القراءة - لا يمكن أن تجني مكاسب سياسية محلية سوى عبر البوابات الإقليمية، وإلا اضطرت"الإرادات الدولية"إلى تبني مطالب الأطراف المحلية وسخرت الأولى نفسها لحماية مكاسب الأخيرة، وهو ما لا يستقيم موضوعياً ومنطقياً. صحيح أن إيران وتحالفها الإقليمي يواجهان اصطفافاً دولياً غير مسبوق، لكن هذا التحالف ليس ضعيفاً إلى الحد الذي ينهار فيه بمجرد اشتداد الضغوط الديبلوماسية والدولية وإصدار القرارات والعقوبات من مجلس الأمن في حالة إيران، أو باستمرار محاولات حصار"حزب الله"في لبنان من قبل أطراف محلية أخرى، وتطويق تحركاته نحو الفضاءات الطائفية المختلفة في لبنان وأحزابها السياسية. وبخلاف عناصر القوة المتوافرة لدى الطرفين المذكورين، يلعب عامل آخر دوراً كبيراً في الوصول إلى هذه النتيجة، وهو خلو الساحة الإقليمية من تحالفات أخرى. ففي الحسابات الاستراتيجية تعد مسألتا عدم وجود أفق لتحالف إقليمي، وانعدام قدرة أطرافه على امتلاك عنصر المبادأة - وهو حال إيران وتحالفها- مؤشراً على المآل المتوقع. لكن غياب التحالفات والبوابات الأخرى عن الساحة الإقليمية لا يترك في توازنات المنطقة سوى البوابة الإيرانية، التي بقدر ما تتأثر بالضغوط الدولية تنجح في استيعابها وتمريرها مجدداً إلى الساحة الإقليمية الخاوية. ويجد هذا الخواء ترجمته الأدق في"الإعتكاف"العربي الحالي عن التعاطي مع التداعيات التي تستتبعها المواجهة الحالية، فلا هو يستطيع التأثير في سيرها، ولا حتى الاختباء من شظايا استحقاقاتها. خبير مصري متخصص في الشؤون الايرانية