دائماً تغريك بالكتابة عنها، هي صنعاء بصباحها المشمس، الدافئ، الجميل. الصباح الرائق الذي يتسرب هدوؤه الى روحك، فتطمئن، أنت القادم من قلق بيروت وليلها المضطرب. لا شيء يعادل هذا الهدوء، تفكر، هدوء السماء الطافحة بمرايا الزرقة، وهدوء الوجوه التي تختزن تعابيرها معاني تذهب عميقاً في عراقة هذا البلد. لا شيء يعادل ما أحاطنا به اليمنيون من رعاية وما غمرونا به من محبة وكرم وفي مقدمهم وزير الثقافة الاستاذ خالد الرويشان، ورمز اليمن الشعري والثقافي عبدالعزيز المقالح. تتراجع أوصاف الكبير والعظيم وألقاب المعالي، تصغر، أمام ما تلمسه من سمو وبساطة، وأصالة وعفوية ونبل وكرم.. وتقول إنه اليمن، وحضارته الراسخة، وتاريخه العريق. وإنهم اليمنيون احفاد بناة سد مأرب الخالد، وساكنو قمم الجبال العالية والمنازل الاسطورية الساحرة. إنهم الأوفياء لحضارتهم وتاريخهم، الناهضون اليوم لبناء حداثة تحرص على ما يميز تلك الحضارة وذاك التاريخ. هكذا تبدو صنعاء مختلفة ببهائها القديم، حيّة على رغم مرور السنين، ويبقى أهلها يخاطبونك بالأخوة والسلام على ارتفاع مقاماتهم وعلو مناصبهم. في بيت الثقافة الذي أجريت فيه النشاطات الثقافية المصاحبة لمعرض الكتاب اللبناني 6/11 - 15/11/2006، كان لبنان حاضراً بأكثر من معنى: الشعر والموسيقى... والحضور الزاخر بالتضامن والترحيب. ففي صبيحة اليوم الأول، ألقى الشاعر جودت فخرالدين عدداً من قصائده التي عبّر في بعضها عما أصاب الجنوب وما عاناه أهله من حرب اسرائيل الأخيرة عليه. وكانت نون الجماعة تشير الى كونه واحداً مشاركاً في هذه المعاناة: تتكرر الحرب على طريق"بيتنا في الجنوب"كما يقول"ونحن نرممه كل يوم/ نرمم أعمارنا فوقه/ لنتابع سير الحروب. هو الطريق الى البيت الذي يوحي في القصيدة بزمن طويل، وبحركة دؤوب، مستمرة هي، كما يبدو، حركة الحياة. كأن الحياة قدر يواجه قدراً آخر في هذا الجنوب الذي تتابع على دربه الحروب. يلامس جودت فخرالدين البساطة الصعبة والوضوح الناهض بكثافة الدلالة بخاصة في قصيدته"شظايا"، وما ألقاه منها تحت عنوان"سماء". أصغينا اليه. نحن الحضور، مأخوذين بدلالات الشعر الملتبسة فنياً، وما تنسجه من صور وتصوغه من علاقات تذهب عميقاً وبعيداً في مدلولاتها. يقول: "السماء التي انبثقت من جحيم المخاوف،/لم ترتفع. سقطت كلها في الحديقة،/ وانتثرت كالزجاج المحطم، عاصفة القصف ألقت ببعض النوافذ، /فوق تراب الحديقة / فارتعشت نجمة السياج، / الذي صار كالأفق، / صار السياج حدود السماء". يزدوج مدلول السماء في هذا الشعر ويلتبس. إنها سماء مجازية لكن محيلة على واقع الحرب المرعبة والخوف الجحيمي. مجاز هو، بذلك، واقع يشير الى سماء استبدلت السماء، أو الى سماء تغطي سماء ليأتي ارتعاش النجمة في السياج مؤدياً وظيفة تحول، هي تحوّل السياج الى حدود للسماء. إنه جحيم الحرب، جحيم النار واللهب يصير أفقاً، صورة شعرية لصورة واقع ومشاعر. وفي صبيحة اليوم الثاني ألقى الشاعر شوقي بزيع عدداّ من قصائده، أيضاً، التي أصغى اليها الحضور بتأثر مضاعف قوامه الصورة والايقاع الضارب على أوتار القلب والروح. أمران يلاحظهما المصغي الى شوقي بزيع في تلك الصباحية: الأول هو نزوع صوره الى التحفف من الاستعارة لتأتي هذه الصور أكثر تألقاً بمدلولاتها الحية، المكثفة في العبارة القصيرة. كأنها بذلك تترك لنا إمكان المشاركة في نسج صور وفق مشاعرنا ومعاناتنا، صور نستحضرها من حرب طالت الجميع بالفقدان. يقول من قصيدته"خلود تنجح في امتحان الموت". "لا ماء للكلمات / كي أدعو الرثاء الى جنازتها / ولا أقمار كامنة / يقطّرها الحنين كدمعة ثكلى / على دمها المراق، وذلك الالم المصبَّر / في مخابئه...". تصل المعاناة، بحسب هذه الأبيات، الى ذروتها إذ يجف الكلام ويتصبّر الألم، إنه صمتنا العاجز الذي يدفعنا الى أكثر من الاصغاء الى هذا الشعر. الشعر الذي يعوّضنا عجزنا ويصير قولنا. ويتألق شوقي بزيع شعرياً، في قصيدته"تعديل طفيف"حين يحكي حكاية هذا الكائن الغامض، الوحيد، الذي يرهف السمع لأقصى عشبة تسقط... وپ"لأنين القصب المفطوم". والذي"يستولد الازهار من كمّ الفضاء / ويواري ماتصبُّ الشمس / في معطفه الرث من الألوان..."والذي"لم يكن يقرأ أو يستقرئ الاشياء / بل كان يسميها". تكمن شعرية الإبداع هنا في هذا التلاحم السرّي بين الكائن والأرض. الكائن الغريب، الوحيد، الجنوبي، الذي حين يباغته القصف يتعرّض لتعديل طفيف. بمعنى أنه يبقى حاضراً في الريح والأشجار، في الغيم وما تصبّ الشمس. لا يموت. يبقى في المسمّى قبل الاسم، في الخامة الأولى. أما في صبيحة اليوم الثالث فقد قدمت موجزاً عن المحاضرة التي أعددتها لهذه المناسبة تحت عنوان"المسألة الطائفية في الرواية اللبنانية"، بدءاً من رواية"حسن العواقب"1899 لزينب فواز، مروراً برواية"الرغيف"وپ"طواحين بيروت"، وغيرهما، وصولاً الى روايات الحرب المكتوبة في الثمانينات وأوائل التسعينات والتي حكى فيها مؤلفوها عن الحرب الأهلية اللبنانية - اللبنانية من منظور نقدي معبرين بذلك عن رفضهم لهذا الاقتتال الأهلي. وقد أنهيت كلامي بالسؤال التالي: هل علمتنا الحرب الأهلية درساً، وهل استطاع الأدب الروائي أن يغيّر شيئاً في وعي اللبنانيين الثقافي الجمعي!! وكان ختام نشاطات صنعاء المتضامنة مع لبنان مسكاً، اذ حكى رفيق علي أحمد عن هذا التعاطف الحميمي الذي سرى بينه وبين أهل صنعاءوالمدينة القديمة سوق الملح كما تسمى -. حكى عما همست به حجارتها التاريخية وسورها القديم... هو الذي يزور هذا البلد العربي للمرة الأولى فاستقبله الناس مرحبين، معتزين بحضوره، وغير مصدقين بأن هذا الذي يرونه بينهم هو نفسه رفيق علي أحمد الذي يشاهدون صورته على التلفاز. حكى رفيق علي أحمد، في سياق حديثه عن تجربته في المسرح، كيف شاركته صنعاء وأناسها وجد المعاني وحمولة الزمن زمن المدينة المديد. الزمن الذي لا يعود سوى لحظةٍ في حاضر، لحظة لكنها مسكونة بأكثر من حكاية، وهاجسةٌ بالكثير من أسرار الحياة. خمسة أيام في صنعاء أنستنا حفاوة الأخ الوزير، والأخ الشاعر، والأخوة الأدباء والمثقفين والجامعيين، والشعراء الشباب، وعازفي العود، والدابكين الصادحين بأغاني فيروز، وجلسات المقيل، ودعوات الغداء، وزيارة معرض الكتاب، ومركز الدراسات، ومعالم صنعاء... كل هذا وغيره مما لا يترجم بكلام... أنسانا قلقنا الذي حملناه معنا من لبنان. تأخذني اليمن اليها، أنا التي تكررت زياراتي اليها منذ أكثر من عشرين سنة، كأنني أدمنتها... أتأمل صباحات صنعاء التي لها رنين النحل في فصل الربيع، أصغي... أصغي الى ما تطفح به عيون أهلها وقلوبهم، الى الصمت والكلام... ويعود إليّ السؤال الذي يشغلني، السؤال المقلق: هل حين سأعود الى بيروت سأجد ما كان لها من صباحات جميلة وهادئة... هل سأجد السلام بين أهلها!! أتساءل وأحتضن أملاً ومسرةً أدخلهما الأخوة اليمنيون الى قلبي. بيروت في 27/11/2006