الفقر - أحد الأمرّين - في ظل نادي العولمة، يبدو، بل يسيطر، بوجهه الكئيب ومظهره الكريه، ولو كان هناك حل يبدو في الأفق لهذه المأساة لهان الأمر، ولكنها - أي حياة الفقر - تتفاقم يوماً بعد يوم، وأعداد الفقراء الذين يصارعون الجوع والمرض والموت تزداد كل يوم، إن لم نقل كل ساعة، وازدياد حالات الفقر والجوع أسرع بكثير من ازدياد أسعار النفط والمعادن الثمينة والسلع. وسبب معاناة الفقراء في العالم الثالث ليس في فقر العالم أو قلة موارده، ولكن سببها هو سوء توزيع ما تجود به الأرض من خير، فبينما نجد أن ثلثي سكان العالم يقل دخل الفرد منهم عن دولارين ونصف الدولار وحوالى 1.6 بليون إنسان يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، نجد أن 20 في المئة من سكان الدول الصناعية يسيطرون على 80 في من دخل العالم هؤلاء يعيشون حياة الرفاه والترف والبذخ، وإخوانهم من فقراء العالم يعانون الشقاء والحزن، أيديهم فارغة من المال وبطونهم فارغة من الطعام يموتون جوعاً. المعادلة واضحة. دول صناعية تقدمت وتطورت فصنعت أسباب الثراء والعيش الكريم لمواطنيها فاستقر نظامها الاقتصادي والسياسي، وباستثناء بعض التظاهرات المحدودة في بعض الدول الغربية، احتجاجاً على ارتفاع أسعار النفط بسبب الضرائب التي تفرضها تلك الدول على مواطنيها، فلم تشهد هذه الدول ثورات أو انقلابات سياسية أو اجتماعية خلال العقود القريبة الماضية، وهي - لا شك - في متعتها ورفاهية عيشها لا تعترف بمقولة الفيلسوف أرسطو:"الفقر هو مولد الثورات والجريمة". ومقابل تلك الصورة الزاهية التي ذكرناها فإن الفقر والبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة يهدد الملايين في الدول العربية فحوالى 73 مليون نسمة من السكان قُدّر عليهم أن يكونوا تحت خط الفقر، وفي بعض الدول نسبة الفقر تقفز لتبلغ 27 في المئة، بل إنها في البعض الآخر تبلغ 30 في المئة، وأعلى نسبة في فلسطين التي ترزح تحت الاحتلال الصهيوني فحوالى 48 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر وتصل إلى 76 في المئة، طبقاً لبعض الدراسات. وبينما نجد هذه الصورة الكالحة بادية للعيان، نجد فئة أخرى في عالمنا العربي المسكين غارقين في الثراء حتى الأذنين تكاد تقتلهم التخمة، والثراء الذي يتمتعون به ويتمرغون في نعيمه، والذي لم يأت من عرق جبينهم، وإنما جاء هنيئاً مريئاً وهم يتمتعون بهواء المكيفات اللطيف وبرادها المنعش باستغلال النفوذ والاستيلاء على المال العام، من دون رقيب ولا حسيب. وبعض هؤلاء من كبار أثرياء العالم، وثراؤهم هذا واضح للعيان تتحدث عنه قصورهم الفارهة التي تفوق قصور ألف ليلة وليلة كما يتحدث بذخهم الصارخ وإسرافهم الخرافي. ويبدو أن التقارير التي تصدر عن العديد من المنظمات الدولية لا ترسم مستقبلاً أفضل للسيطرة على الفقر، فقارات العالم تكتظ بعدد كبير من الفقراء والمعدمين، بل إن عدد هؤلاء الفقراء الذين يعيشون على دولار واحد في اليوم يصل إلى أكثر من بليوني إنسان، وعلى ذمة البنك الدولي فإن أكثر من 2.8 بليون نسمة، هم من الفقراء، والأسوأ أنه مصحوب بتدنٍ مستمر لنصيب الفرد من الدخل القومي في كثير من الدول النامية. في عالم يتحدث عن حقوق الإنسان، بل حقوق الحيوان، يموت الملايين جوعاً ومرضاً، فدولة كالنيجر تتعرض لمجاعة طاحنة، وربع سكانها مهددون بالموت جوعاً، حيث دخل الفرد السنوي لا يتجاوز 137 دولاراً في السنة، وهو مبلغ يدفعه بعض الأغنياء، في مقابل كوب مشروب بارد. والنيجر ليست بِدْعاً في ذلك كثير من دول العالم الثالث ليست أحسن حالاً من النيجر، حيث يفتك الجوع والمرض بعدد كبير من الناس، ولو كان هناك أي بصيص أمل بتحسن الحال لقلنا:"يا نفسُ صبراً"، ولكن كل الدلائل تؤكد أن الحال تزداد سوءاً. وبالتأكيد نحن لا نستطيع أن نبرئ ساحة الدول النامية من المسؤولية تجاه ما يحدث، ولكن بالتأكيد أيضاً أن الدول الصناعية تتحمل جزءاً كبيراً من هذه المأساة، فمنذ عام 1985 ودول الشمال الغني تطلق المبادرات بدعوى معالجة الفقر في أفريقيا والعالم، مع زخم إعلامي وهالة دعائية براقة، ولكن حصيلة ذلك كله كان صفراً أو قريبا من الصفر. ومن جانب آخر، فإن قمم الدول الثمان الكبار المتتابعة، وهي تقدم طروحات تؤكد أن ظاهرة الفقر ستصبح من الماضي، تتناسى أنها تقدم توصيات توصف بالكلاسيكية، بل والعقم، ومنها: إقرار الأمن والسلام في العالم، مضاعفة النمو الاقتصادي والصادرات، تطوير الموارد البشرية، إضافة إلى مضاعفة المساعدات للدول الأكثر فقراً. لكن على أرض الواقع لو رصدنا سلسلة المبادرات لدول الشمال منذ 1985 حتى 2005، لوجدنا أن دول أفريقيا وبعض دول آسيا والشرق الأوسط خسرت الكثير في ظل العولمة، والقرارات والتوصيات التي اتخذتها تلك الدول كان مصيرها الفشل، وتتنافى مع تقرير البنك الدولي لعام 2005 الإنصاف والتنمية. ولا شك في أن الصراعات والحروب واحتلال الدول عوامل تُبْرِزُ كأسباب رئيسية للفقر بصورته القاتمة، ويظهر ذلك واضحاً في أفغانستانوالعراقوفلسطين، وليست معظم دول أفريقيا التي تطحنها الحروب الأهلية أحسن حالاً من الدول السابق ذِكْرُها، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة. وهذه الصراعات يمكن حصر أهمها - إلى حد بعيد - في القارة الأفريقية والوطن العربي الذي أصبح ميداناً لحروب وصراعات طاحنة مستمرة، نتيجتها الحتمية دمار البنية الأساسية وتحطيم المنشآت الصناعية والمدنية، وهو ما أدّى إلى خسائر مادية ضخمة وتفشي البطالة. هذا إلى جانب الخسائر البشرية الكبيرة خسائر مادية فحروب إسرائيل ضد مصر وسورية والأردن ولبنان تَرَكَتْ بصماتها على خطط التنمية الاجتماعية وبرامجها في تلك البلدان. والحرب العراقية الإيرانية أهدرت موارد مالية ضخمة تقدر بمئات البلايين، وهلك مئات الآلاف من البشر الذين هم في سن العمل والإنتاج، كما أن غزو صدام للكويت لم يكن أقل كارثيةً من سابقتها. ثم جاءت أم الكوارث وهي احتلال أميركا وبريطانيا لأفغانستان ثم العراق في حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس، وبدلاً من جلب الديموقراطية المزعومة والأمن والرخاء التي وعد بها السيد بوش الأفغانيين والعراقيين، تحولت الجنة الموعودة إلى جحيم جعل الناس يتحسّرون على أيام صدام، على رغم بشاعتها، وجنى الشعب العراقي بدلاً من الوعود السخية الخوف وعدم الاستقرار والجوع والموت، بحيث إن إعمار العراق يحتاج إلى عقود من الزمن بعد الدمار غير المسبوق الذي لحق به بأيد أميركية. أما أفغانستان الذي يعد واحداً من أكثر بلدان العالم فقراً فزادت الحرب عليه واحتلاله الطين بلة، فأصبح مواطنوه أكثر عوزاً وفقراً. ولحق بالبلدين الصومالُ الذي لاقى من الفقر والجفاف والصراعات والحروب ما لاقى، وأكملت أديس أبابا العقد بشنها حرباً شعواء على ذلك البلد العربي بوكالة أميركية، لتحتل العاصمة مقديشو أمام أعين العالم ومجلس الأمن الذي فشل حتى بالتنديد بهذا التدخل الإثيوبي السافر. هكذا، فإن الغرب لم يمتنع من انتشال العالم من فقره ومعاناته، على رغم أنه يملك فائضاً ضخماً جداً يستطيع مد يد العون إلى الدول الأكثر فقراً، لكنه بدلاً من ذلك أخذ يزيد من معاناته بتأجيج الحروب ومد الفرقاء بالأسلحة، بل والتدخل السافر في بعض البلاد بجيوشه وأسلحته الفتاكة، حاملاً معه لتلك البلاد مزيداً من الفقر والجوع والخراب. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية.