إذا كان من مغزى مباشر لأحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 فهو في الصدمة التي وجهها لمسار التطور العالمي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي منذ تسعينات القرن الماضي، وللرهانات الخاطئة المواكبة لذلك التطور، إن من جهة الغرب الذي اعتقد أن بإمكانه ان يظل الى ما لا نهاية، ناعماً برفاهه وأمنه وهيمنته على ثروات العالم، وفي منأى عن مشكلات العالم الثالث وأمراضه وعلله ومصائبه، مشيحاً بوجهه عن بؤس هذا العالم وصامّاً أذنيه عن أنّات فقرائه ومعذبيه، وإن من جهة العالم الثالث الذي اعتقد ان الانكفاء الى التراث وتأجيج مشاعر العداء والحقد والكراهية ازاء الغرب، هو السبيل السويّ الى التكافؤ مع العالم المتقدم، بل وقلب المعادلة الحضارية لمصلحته. نموذج معبّر لتوجهات السياسة الغربية في التسعينات من القرن الماضي وإيديولوجيتها السائدة الى الآن، جاء في خطاب الكاتب الألماني كريستوف هاين في تظاهرة ضد العرقية في برلين - كانون الأول ديسمبر 1991 - إذ قال: "لا لسنا معادين للآخرين. كل ما هنالك اننا نكره الفقر، ومن الحق، ان بعض البلدان فقيرة كأقسى ما يكون الفقر، ونحن نخشى جرثومة الفقر، ونخشى ان نلتقطها. إن خوفنا من ان نصير فقراء، خوف يبلغ الهلع". ويخاطب هاين ابناء العالم الثالث الفقير: "لا ليست كراهية الغرباء هي التي تجعلنا قساة عليكم. إننا نريد ان نحافظ على رخائنا، ولزام علينا ان نحميه منكم. لقد بدأتم تعلنون الحرب علينا. إن عالمكم هو الذي غزا عالمنا، وإذا نحن لم نوفر الحماية لعالمنا هذا، العالم المصنّع الغالي على نفوسنا فإنه سيتداعى في الهوة السحيقة لعالمكم الثالث. إننا مضطرون الى أن نقفل من دونكم ابوابنا وبيوتنا، إنكم تصرّون على ان تشاركونا حياتنا، وهذا عدوان علينا، عدوان على رخائنا، عدوان على ثقافتنا... لا بد من ان نبني بيننا وبينكم سداً... إن صلاتنا ودعاءنا ونسكنا وعبادتنا للمال وحده، السد والجدار الصلد المانع القادر على حماية حدود عالمنا، عالم الشمال، عالم الأخيار في وجه المعوزين" "المستقبل العربي"، 6/1992. في سياق هذا التوجه السياسي والاقتصادي والإيديولوجي ظل عالم الشمال يتقدّم بخطى وئيدة طوال عقد التسعينات، فيما راح عالم الجنوب يتقهقهر الى الدرك الأسفل على كل المستويات، حتى أن نسبة التفاوت بين اغنياء العالم وفقرائه قد ازدادت من 60 الى 1 عام 1990 الى 74 الى 1 عام 1997. وبلغ تمركز الثروة في العالم جداً بات معه ينذر بالانفجار، فقد اشار تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأممالمتحدة لعام 2001 الى أن الواحد في المئة الأكثر ثراء من سكان العالم يحصل على دخل مساو لما يتلقاه ال57 في المئة الأكثر فقراً، وأن 10 في المئة من سكان الولاياتالمتحدة يزيد دخلهم على دخل 43 في المئة من سكان العالم الأكثر فقراً. تؤكد هذا الخلل والتفاوت العميقين في الدخل بين اغنياء العالم وفقرائه، الدراسات الدولية السابقة التي رصدت في هذا المجال 200 شركة كبرى تقرِّر مصير العالم الاقتصادي من اصل 500 شركة تسيطر على التجارة والإنتاج في جميع انحاء العالم. واكب هذا التمركز في الثروة العالمية ارتفاع متعاظم في حصة الدول الصناعية المتقدمة - 71 في المئة من التجارة العالمية و58 في المئة من الاستثمارات الأجنبية و3،54 في المئة من مستخدمي الإنترنت في الولاياتالمتحدة وحدها. وفي موازاة هذا التعاظم المذهل في الثروة كان يتراكم بؤس بشري مخيف في العالم الثالث، حتى بات في عالمنا وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2001 قرابة 2،1 بليون امّي، اضافة الى عدد مماثل من الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم او 8،2 بليون شخص يعيشون على اقل من دولارين في اليوم. في إطار هذا الخلل العالمي ينبغي ان يفهم الصراع الراهن بين اميركا والغرب وأفغانستان. فقد اثبتت عمليات الحادي عشر من ايلول ان الغرب لا يمكن ان يحمي رخاءه وثراءه وازدهاره فيما العالم من حوله ينوء بالأمية والجوع والبطالة، وتسدّ في وجهه السبل والآفاق. ان السد المنيع الذي تصوره كريستوف هاين تساقط في لحظات مؤكداً خطأ الرهان على حدود آمنة امام الفقر والبؤس الإنساني، طارحاً على الإنسانية احد خيارين: إما ان تنعم بأمن عالمي شامل، وإما ان تبقى مهددة بالحرب والصراع والرعب. وإذا كانت احداث الحادي عشر من ايلول قد اسقطت رهان الغرب على الثراء والأمن والرفاه في عالم من الأميين والفقراء والمهمشين، فإنه ساقط كذلك، رهان الأصوليين على كسر انف اميركا والغرب، بإعداد كوادر متلاحقة من انتحاريين يسعون في قتل الأبرياء ودحر الحياة المدنية تحت هاجس الحرب الجرثومية، فيما شعوبهم تعاني عدوانهم السافر على حقوق الإنسان، حيث المرأة مقموعة والرأي المختلف مغيّب، والحداثة مرفوضة، والدول تعادي شعوبها والشعوب تعادي دولها. إننا اذاً امام تحد من اعظم التحديات التي تواجه البشرية في تاريخها المعاصر، لا مخرج منه، إلا بعقد سياسي اجتماعي حضاري، تتنازل معه القلة الثرية الممسكة بزمام التقدم العلمي، والمهيمنة على الثروة العالمية لمصلحة إنماء الأمم والشعوب الفقيرة، على نحو يمكّنها من احترام حياة الإنسان وحقوقه، ومن تجاوز ايديولوجيا التعصّب والأصولية والموت، والتخلص من النظر الى الغرب كعدو يستحق حتى الموت، لتكبيده اكبر قدر من الخسائر. آن الأوان لمراجعة كل الرهانات الخاطئة التي إذا استمر التشبث بها على النحو الذي نشهده الآن، فسيأتي وقت تُصبح معه كل الخيارات معدومة وكل سبل الحوار موصدة أو مستحيلة. * كاتب لبناني.