قوة العقل وحدها تستطيع انتشال لبنان من مخاطر القطيعة بين الطوائف والتيارات، وأقربها الى المنطق اعتبار ما يحدث خلافات سياسية قابلة لأن تجمع الفرقاء الى طاولة الحوار، فالحروب على فظاعتها تنتهي الى مفاوضات. وأياً تكن المؤاخذات بين أطراف الصراع فإن النزوع الى سوابق إسقاط الحكومات عبر تحريك الشارع يمكن أن يتحول الى تقليعة تعيد الأزمة الى نقطة الصفر كلما حدثت خلافات سياسية، مع أنه يصعب تصور قدرة لبنان على استيعاب أزمات موسمية تضرب مظاهر استقراره في العمق. وفي أزمة من النوع الذي يعرفه لبنان لا ضرورة لإغراق البلد في استقطابات اقليمية ودولية، تنتج عن وضعه في خريطة الصراع العربي - الاسرائيلي. ما يفرض على اللبنانيين، أصحاب القضية، قدراً أكبر من المحاذير وهم يعاينون مآل الأحداث، ويصبح تقوية الدولة وتعزيز نفوذها المدخل الطبيعي لتحقيق تعايش يصمد في مواجهة الإملاءات الخارجية التي نفذت من ضعف الدولة. حتى الآن أظهر اللبنانيون حساً حضارياً في طرح المطالب التي تختلج فئوياً وطائفياً من دون أن تبدو وكأنها أهداف نهائية. فثمة معطيات في تركيبة البلد لا يمكن الغاؤها بمجرد التلويح بالهاجس الوحدوي. وثمة مشاعر تحاول أن تتجاوز اطار الوفاق الوطني الذي ينظر اليه خطاً أحمر. غير أن الأساليب يمكن أن تفضح النيات حتى عند الإقرار بالسقف الذي لا يمكن تجاوزه. فهل تشكيل حكومة وحدة وطنية يتطلب كل هذه الجهود التي تبذل في محلها أو في غير محلها للإقرار بحاجة لبنان الى حكومة تجمع ولا تفرق؟ وهل الحوار الوطني الذي دعي إليه مرات عدة كان عاجزاً عن نقل الفرقاء إلى ضفة المصالحة والوفاق، التي تعتبر حجر الزاوية في البناء اللبناني، في حال لم تكن هناك ترتيبات لإجهاضه؟ فالتصورات حول مستقبل البيت اللبناني، مهما كانت متباعدة ومتباينة، تظل قابلة للحوار. والشيء الذي يبقى محظوراً بكل المقاييس هو ضرب مقومات الوحدة اللبنانية المرتبطة بشرعية اتفاق الطائف وإرادة القطع من أي ميول تحاول النيل من استقلالية القرار اللبناني. ومن المفارقات أن اللبنانيين الذين صمدوا في الحرب الإسرائيلية من خلال تعطيل استهدافها فريقاً واحداً والتعامل معها كاستهداف للبنان، الدولة والشرعية والمؤسسات والوفاق، بدوا أقل حذراً في استيعاب تداعياتها. فقد يفهم أن النصر وفق منطق الصمود، يجب تصريفه في مجالات السلم والإعمار، لكن من غير المفهوم ألا يشارك الجميع في تدبير مرحلة ما بعد الحرب التي يستمر نفوذها مؤشراً في الساحة اللبنانية إلى حين الاتفاق على خوض طبعتها المؤجلة في اصلاح ما دمرته الحرب. والأكيد أنه ليس بنياناً يمكن إعماره بسواعد الرجال فقط، وليس أسرى يمكن استردادهم عبر المفاوضات، وليس سلاحاً يمكن معاودة اقتنائه بالأموال والهبات فحسب، ولكنه حال انتظار حقيقية تهدد التعايش اللبناني في جوهره، ويمكن أن تتطور إلى أكثر السيناريوات تدميراً على حساب وحدة الدولة والشعب عند الإصرار على عناد يكون في مصلحة غير اللبنانيين. كان اللجوء الى اغتيال شخصيات لبنانية مقدمة لضرب رمزية التعايش وجلب مظاهر الفتنة، واستطاع اللبنانيون في جراحهم البليغة أن يحافظوا على الدلالات الرمزية لصون النظام السياسي من الانهيار، كون الاغتيالات الموجهة كانت تستهدفه أساساً لإشاعة الفوضى والاستسلام الى مشاعر الانتقام. ولم يكن بداً من اللجوء الى محكمة دولية في غضون التعقيدات والملابسات التي ترتبط بهذا النوع من الجرائم السياسية البشعة. ومع أن أي طرف لا يستطيع أن يجهر بأنه لا يريد للحقيقة أن تظهر حتى ولو كانت من قبيل نصف الكأس الفارغة، فمنطق الأشياء يفرض تراتبية في الأسبقيات. فالحرب لم تلغ الإصرار على الوصول الى الحقيقة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الصراع الدائر الآن، طالما أن الاتفاق قائم على المبادئ. هناك طرق ووسائل لإقرار حكومة وحدة وطنية تبدو أقرب إلى التحقيق عبر احترام المنهجية الديموقراطية. والخلاف يكون مقبولاً ومطلوباً لإغناء هذه المنهجية وليس من أجل تجاوزها، وبالتالي لن يضير أهل القرار في لبنان معاودة الاتفاق على الأسبقيات والمبادئ، شرط ألا يكون تحريك الشارع يراد لأهداف أخرى في الإمكان تصور انفلاتها كما في لعبة مروض الأفاعي عندما ينقلب السحر على الساحر. لكن اللبنانيين أكثر اصراراً على التحكم في مصيرهم، فهم شعب حضاري وليسوا لعبة روبوت يتم التحكم فيها عن بعد.