كانت مجموعة المحافظين الجدد من اكثر القوى الفكرية والسياسة التي حرضت وعملت على غزو العراق، وكانت هذه هي سياستهم وهدفهم منذ التسعينات، وهو ما ظهر في كتاباتهم وما دعوا اليه في وثائقهم والتي قدموها الى الرئيس السابق كلينتون العام 1992 ولم يعمل بها، وقد كانت لحظتهم بمجئ جورج بوش الابن وشخصيات ادارته وبخاصة دونالد رامسفيلد وديك تشيني، الذين وان كانوا لا يحسبون على مجموعة المحافظون الجدد وانما على ما يعرف بالمحافظين التقليديين، الا انهم تجاوبوا مع تيار المحافظين الجدد ومكنوا شخصياته من مراكز الادارة في البيت الابيض والبنتاغون وبعض ادارات وزارة الخارجية، وقد جاءت احداث 11 أيلول سبتمبر لكي تقدم فرصة تاريخية لهذا التيار لكي يقدموا افكارهم واستراتيجياتهم وكانت الحرب على العراق في مقدمتها. غير انه مع انتهاء ولاية بوش الاولى بدأت مراكز هذا التيار تهتز في الادارة فانسحب ابرز دعاتها وهو ريتشارد بيرل الذي كان يرأس اللجنة الاستشارية في وزارة الدفاع، وريتشارد فايث، وبول وولفوفيتز وديفيد فروم، وكان تراجعهم اساسا بفعل تطورات الحرب في العراق والمأزق الأميركي فيه وبفعل ما ثبت من فساد افتراضاتهم التي دعوا للحرب على اساسها. وقد كان جون بولتون هو آخر ما نسحب من هذه المجموعة بعد ان اضطر الرئيس الأميركي ان ينهي عمله كمندوب دائم للولايات المتحدة في الاممالمتحدة، وذلك تحت توقع رفض الكونجرس الأميركي لتعيينه في هذا المنصب . والآن، وبعد ما تطور اليه الوضع في العراق الذي كانوا يتوقعون انه سيكون هيّناً، كيف ترى هذه المجموعة ما كانت تعتقده وتروج له في ضوء ما تكشفت عنه الاوضاع في العراق؟ لقد افتتح المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، سلسلة مراجعات المحافظين الجدد لمواقفهم عندما خصص كتابه الآخر"أميركا عند مفترق الطرق"لمناقشة الميراث الذي خلفه المحافظون الجدد، واعلن بوضوح"انه استخلص ان حركة المحافظين الجدد كرمز سياسي وفكري، قد تطورت الى شيء لا استطيع تأييده بعد الآن"وانها في اندفاعها نحو الحرب على العراق قد تناست" ان طموحات الهندسة البشرية عملية في غاية الصعوبة ويجب الاقتراب منها بعناية وتواضع". وبعد فوكوياما تتالت شهادات و مراجعات ابرز شخصيات المحافظين الجدد لمواقفهم ورؤاهم قبل الحرب وبعدها. فقد ذكر ريتشارد بيرل تعقيبا على ما كان يعتقده منذ ثلاث سنوات من ان العراق مرشح جيد للاصلاح الديموقراطي، وانه كان يعرف ان العراق لن يصبح مثل نظام وستمنستر في يوم وليلة، وان الديموقراطيات الكبيرة لم تتحقق كذلك الا انه كان يعتقد ان لدى العراق فرصة طيبة للنجاح، ان رائحة الحرية لا تبدو فقط بالنسبة للعراق وانما لكل الشرق الاوسط وانه بعد سقوط صدام حسين فإن الاصلاحيين الايرانيين سيتشجعون على تغيير نظامهم بينما ستنظر سورية بجدية في وقف دعمها للارهابيين. اما الآن، فإن بيرل في رؤيته للوضع الراهن يرى"أن مستويات الوحشية التي نراها مرعبة حقا وعلى ان اقول إنني قد أسأت تقدير مستوى الفساد، واضاف ان الهزيمة الكاملة في العراق بعد الانسحاب الأميركي الذي ترك العراق كدولة يسودها الفوضى وفاشلة قد لا يكون الآن حتميا ولكنها تصبح الآن اكثر احتمالا". وفي رأي بيرل"فان مثل هذه الكارثة ترجع سببها الرئيسي في العجز المدمر داخل ادارة بوش، فالعملية السياسية ليست اقل من كارثية، فالقرارات لم تتخذ كما يجب ان تكون، وهي لم تتخذ في التوقيت المناسب والخلافات كانت تجري بشكل لا نهائي وفي نهاية الامر فإنه يمكنك أن تحمل الرئيس المسؤولية، واعتقد انهم جعلوه يعتقد ان الامور تتقدم ببطء بأكثر مما كانت واعتقد انه لم يدرك عمق النزاعات تحت السطح، ومدى المعارضة داخل ادارته وعدم الولاء". وذهب بيرل الى حد القول إنه"اذا ما عاد به الوقت فانه لن يدافع عن غزو للعراق، وانه كان ستقول لا دعونا نفكر في استراتيجيات اخرى في التعامل مع الامور التى تعنينا اكثر". ورغم انه ما زال يعتقد في التهديدات التي كان يمثلها صدام حسين"الا انه ربما كان يمكن التعامل معها بوسائل اخرى غير التدخل العسكري المباشر". واذا كانت هذه هي مراجعة ريتشارد بيرل، فماذا عن شخصيات المحافظين الجدد الاخرى؟ ان شهاداتهم توحي ليس فقط بخيبة الامل دائما، بل باليأس والغضب من عدم كفاءة ادارة بوش والتي كان العديد من المحافظين الجدد يرون انها المع امل لهم . فديفيد فروم الذي كان يكتب خطب بوش، وهو الذي صك تعبير"محور الشر"، يقول ان الهزيمة قد تبدو الآن لا مفر منها لأن قوى التمرد استطاعت ان تبرهن انها تستطيع ان تقتل أي شخص يتعاون، وان الولاياتالمتحدة وحلفاءها فشلوا في ان يبرهنوا انهم لا يستطيعون حمايتهم. اما كينيث ادلمان الناشط القديم من المحافظين الجدد واحد الذين عملوا في هيئة سياسة الدفاع في البنتاغون والذي سبق ان قال"اعتقد ان ازالة قوة صدام حسين العسكرية وتحرير العراق ستكون شيئاً هيناً"، فالآن يقول"إنني في غاية خيبة الامل من النتيجة في العراق لانني اعترف انني اعتبرت ان واحدا من اكفأ فريق عمل في الامن القومي منذ ترومان قد تحولوا لأن يكونوا اقل فريق عمل كفاءة في فترة ما بعد الحرب، وليس فقط ان كلا منهم قدر ارتكب اخطاء ضخمة على المستوى الفردي، ولكنهم معا كانوا جميعا عاجزين بشكل مميت". ويتوقع ادلمان الاسوأ من سياسة المحافظين الجدد التي اعتبرتها يوما انها"فكرة السياسة الخارجية المتشددة، والاعتماد على القوة للخير الاخلاقي في العالم"، هذه الفكرة قد ماتت الآن على الاقل لمدة جيل فبعد العراق لن تستطيع ان تسوقها، فالسياسة قد تكون صحيحة على وجه مطلق ونبيلة ومفيدة، ولكن اذا لم تستطع ان تنفذها فهي عديمة القيمة". اما جيمس وولسي، والذي دعا لغزو العراق بعدد ضخم من المقالات والخطب ومقابلات التلفزيون، فبينما كان وحتى العام 2004 ما زال يجادل ان جورج بوش قد جعل العالم مكانا اكثر امانا، فانه الآن يقيم تشابهات واضحة بين العراق وايران، ويعبر عن زهوله مما يراه كأخطاء أميركية عميقة التي تجاهلت الدروس التي تم اكتسابها بألم عبر السنوات الاربعين الماضية وهو وان كان لم يفقد الامل بعد الا انه يعتقد انه اذا ما انتهت المغامرة العراقية بالهزيمة، وهو ما يبدو الآن ممكنا تماما فان النتائج ستكون" مرعبة وستقنع الجهاديين والقاعدة في العراق وبقايا البعثيين اننا نمر من ورق ليس لدينا الاستعداد للبقاء والحرب". واما البروفيسور اليوت كوهين، الاستاذ في جامعة جونز هوبكنز والعضو السابق في هيئة الدفاع والمدافع الطويل عن اطاحة صدام حسين، فهو يبدو اكثر تشاؤماً ويقول:"احيانا يسألني الناس: اذا ما علمت ما تعلمه الآن فهل كنت مؤيدا للحرب، وهم يقصدون اسلحة الدمار الشامل، واجابتي هي ان ما اعرفه الآن ولم اكن اعرفه من قبل هو ما لا يصدق من عدم الكفاءة التي ستكون عليها... انني مروع جدا، واعتقد اننا متجهون الى عالم مظلم لأن النتائج البعيدة المدى واسعة جدا ليس فقط بالنسبة للعراق، ولا المنطقة ولكن عالميا، بالنسبة لسمعتنا ولما يفعله الايرانيون وكل الأمور التي كمثل هذه". وهكذا يراجع المحافظون الجدد انفسهم، وواضح انه مثلما كانت العراق والحرب عليها واسقاط نظامها هي مركز فكرهم ومفاهيمهم، فان خبرة العراق ونتائجها والمستنقع الذي تجد أميركا نفسها فيه بلا مخرج- كانت وراء هذه المراجعة التي وصلت الى حد اليأس، وواضح انهم في هذه المراجعة لا يلومون افكارهم فهي"صحيحة على وجه مطلق ونبيلة"، ولكن الخطأ اتى"من عدم الكفاءة في تنفيذها". وهكذا يرتد المحافظون الجدد على الادارة التي تبنتهم وساهموا في صياغة استراتيجيتها ومفاهيمها في سنواتها الاولى، وهم في هذا يذكرون بزملائهم من المحافظين الجدد الذين ايدوا الرئيس الاسبق رونالد ريغان طالما ظل خلال ولايته الاولى يتبنى ويؤيد سياستهم في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، ثم ارتدوا عليه وهاجموه عندما بدأ يتقارب مع الزعيم السوفياتي الجديد آنذاك غورباتشوف. * كاتب مصري.