تشير معطيات صناعة النفط العالمية عام 2006 إلى ان ظاهرة الأسعار المرتفعة ليست عابرة بل هيكلية وأساسية. والسبب هو زيادة الطلب على النفط نتيجة نمو الاقتصاد العالمي المستدام في الدول الصناعية خصوصاً في الولاياتالمتحدة والناشئة الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل، ووصول الطاقة الانتاجية الى مستويات قصوى، ونشوب اضطرابات سياسية في عدد من الدول المنتجة وفي الشرق الأوسط. وساعد في ارتفاع الاسعار ولوج صناديق استثمار وتحوط عدة سوق عقود النفط الآجلة، تحسباً من أي نقص في الإمدادات لأسباب سياسية أو اقتصادية أو طبيعية. وتدل المؤشرات المتوافرة على ان ظاهرة الأسعار العالية استوعبت من قبل الاقتصاد العالمي من دون أضرار تذكر حتى الآن، ما يعني توقع استمرارها العام المقبل، على رغم توقع وصول كميات أكبر من النفوط الجديدة من الدول المنتجة خارج منظمة"أوبك". والأمر الذي يمكن ان يؤثر سلباً على هذه الظاهرة، هو كساد الاقتصاد العالمي. لكن من جهة أخرى، قد يؤدي نشوب اضطرابات سياسية محلية أو اقليمية في بعض الدول المنتجة الكبرى إلى قطع الإمدادات، ومن ثم خفض معدل الطاقة الإنتاجية الفائضة المتوافرة عالمياً، ما يمكن ان يؤدي الى زيادة الأسعار مرة أخرى. صدمات بطيئة ومتعددة إن ارتفاع الأسعار هو نتيجة عملية تراكمية على مدى السنوات القليلة الماضية، سماها الخبير النفطي دانيال يرغن"صدمة الإمدادات البطيئة الحركة". بمعنى آخر، ان مستوى الأسعار المرتفع هو نتيجة أحداث ذات صلة متعددة الإضراب العمالي الفنزويلي، التمرد الإقليمي في نيجيريا، الحرب على العراق، إعصار كاترينا، شح الطاقة الإنتاجية الفائضة ذات نتائج تراكمية من دون ان تُحدث أي واحدة منها تغييراً جوهرياً أو مدمراً في الأسواق، ولكنها في مجملها أثرت على هيكلية الأسعار. لكن من الواضح الآن، وبعد تجربة السنوات الماضية، ان أساسيات السوق لا تتأثر فقط بالصدمات المتكررة، على رغم أهميتها. فالعناصر الأساسية وراء ارتفاع أسعار النفط هي زيادة عدد سكان العالم، وارتفاع مستوى المعيشة في الدول الناشئة، والتنمية المستدامة في الدول الصناعية، والخوف من انقطاع الإمدادات ومن ثم الافراط في التخزين والمضاربات. وأخيراً، وليس آخراً، اضمحلال الطاقة الإنتاجية الفائضة. النفط في 2006 تشير المعلومات الى ان الطلب العالمي على النفط خلال عام 2006 وصل الى نحو 85 مليون برميل يومياً، ونمو الطلب الى نحو 1.25 مليون برميل يومياً. وسجل إنتاج دول أوبك نحو 29 -30 مليون برميل يومياً، بينما بلغ معدل الطاقة الإنتاجية الفائضة مليوني برميل يومياً، معظمه من النفط الثقيل. أما معدل سعر سلة نفط"أوبك"فقد بلغ حتى أواخر العام نحو 62 دولاراً، مقارنةً بمعدل سنوي لعام 2005 مقداره 50.64 دولار. واللافت الظاهرة الاقتصادية الإيجابية المرافقة لارتفاع أسعار النفط. بمعنى آخر، ان الارتفاع الكبير في اسعار النفط خلال السنوات الأربع الماضية، لم يقلص النمو العالمي كما كان متوقعاً بناءً على تجارب الماضي، بل ان النمو الاقتصادي العالمي ظل عالياً، واستثنائياً، طوال الفترة الماضية. لكن تجدر الإشارة هنا، الى ان تأثير زيادة الأسعار على العرض والطلب بطيء في كل الأحوال، ويحتاج بعض الوقت من أجل ان يأخذ مفعوله. ومن ثم، يمكن جداً ان نلاحظ خفضاً في نمو الطلب على النفط في عام 2007 نتيجة هذا الارتفاع السريع وغير الواقعي في الأسعار، خصوصاً عندما تصل الأسعار فوق معدل 65 أو 70 دولاراً كما شاهدنا خلال السنة الجارية. الدول النفطية: ايرادات ومشاريع جديدة يشير تقرير نشره مكتب رئيس الاقتصاديين في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في البنك الدولي في حزيران يونيو 2006، ان إيرادات الصادرات النفطية من دول مجلس التعاون وليبيا، ارتفعت خلال السنوات الثلاث الماضية من 186 بليون دولار في 2002، إلى 440 بليوناً في 2005. كما نما اقتصاد هذه البلدان بنسبة سبعة في المئة عام 2005 في المتوسط، ما رفع معدل النمو في المنطقة الى ستة في المئة، بدلاً من 5.6 في المئة في 2004، و3.5 في المئة في أواخر تسعينات القرن الماضي. في الوقت ذاته، تشير الدراسة القيمة التي قدمتها مؤسسة"ابيكورب"إلى مؤتمر الطاقة العربي الثامن الذي عقد في عمان بين 14 و 17 أيار مايو 2006، الى ان الدول العربية استثمرت نحو 39 بليون دولار في مشاريع طاقوية جديدة، نحو 80 في المئة منها في القطاع الهيدروكربوني من ضمنها البتروكيماويات، و20 في المئة في الكهرباء. وتشكل هذه الاستثمارات 4 في المئة من ناتج الدخل القومي العربي، و18 في المئة من مجمل الأصول الاستثمارية العربية عام 2005. ان هذه الزيادة في الطاقة الإنتاجية عملية باهظة التكاليف، وتتطلب إضافة إلى توافر الاحتياطات، الأموال اللازمة لتنفيذها - خصوصاً مع ارتفاع أكلاف البناء وأسعار المواد الأولية والخدمات. ويتخذ قرار المضي في هذه الاستثمارات، على فرضية ان الطلب على النفط الخام سيظل عالياً في السنوات المقبلة، وان الربح المتأتي منها يفوق معدل الاستثمار في مجالات اقتصادية أخرى. ويشير وزير النفط السعودي علي النعيمي، في كلمته في ندوة"أوبك الدولية الثالثة"في فيينا في 12 أيلول سبتمبر 2006 الى"أن وجود فرق في تقديرات الإنتاج من"أوبك"بمقدار مليون برميل في اليوم، يستلزم زيادة أو نقصاً في الاستثمارات بما يبلغ 8 بلايين دولار بحلول عام 2010 و15 بليوناً بحلول عام 2025. وهذا هو إطار الشك الذي على دولنا ان تخطط وتنفذ في ظله لزيادة الطاقة الإنتاجية". وتتصدر المملكة العربية السعودية، بحكم كونها الدولة ذات الاحتياط الأكبر عالمياً، هذه الحملة لزيادة الطاقة الإنتاجية. وذكر النعيمي في خطابه بفيينا ان خطط السعودية الاستثمارية في مجالات التنقيب والإنتاج والمعالجة والتسويق على مدى السنوات الخمس المقبلة، ستبلغ نحو 70 بليون دولار، وهي"برامج تقوم على توقعات سوقية معينة وعلى الأولويات الوطنية". وكما يؤكد الوزير السعودي أن على ضوء خبرة المملكة بأسواق النفط العالمية وسياستها الرامية إلى الاحتفاظ بطاقة إنتاجية فائضة تتراوح ما بين 1.50 و2 مليون برميل يومياً بصورة دائمة، شرعت في تنفيذ برنامج استثماري يقدر بنحو 18 بليون دولار يستهدف زيادة طاقة إنتاج النفط لتصل إلى 12.5 مليون برميل يومياً بحلول عام 2009. زيادة قدرة التكرير أحد الأسباب الرئيسة لارتفاع أسعار النفط في السنوات الثلاث الأخيرة هو النقص في سعة المصافي العالمية. ففي دراسة أعدها عادل المؤيد شركة نفط البحرين - بابكو إلى مؤتمر الطاقة العربي الثامن في عمان، يشير إلى تقلص الفائض في طاقة التكرير العالمية من 5 ملايين برميل يومياً في أواسط التسعينات إلى مستوى حرج يقل عن مليوني برميل يومياً في 2005، والسبب الرئيس في تقلص الفائض انتعاش الطلب على النفط. لكن ما زاد الأمور تعقيداً، القوانين البيئية المتعلقة بخفض كمية الملوثات في الهواء والحاجة الماسة الى مشتقات نفطية نظيفة في الوقت الذي لم تكن فيه معظم مصافي العالم مهيئة لذلك، ومن ثم الطلب المرتفع على النفط الخفيف الذي تقل فيه نسبة الكبريت وارتفاع أسعاره وآثار هذه الزيادة على مجمل اسعار النفط الخام. وكما هو معروف، فإن العائد الربحي من المصافي في العقدين الماضيين كان خفيضاً جداً، ما دفع شركات عالمية كثيرة الى التوقف عن بناء منشآت جديدة في الدول المستهلكة. وزادت الأمور تعقيداً القوانين المتعددة التي شرعتها الدول الصناعية بحيث أصبح شبه مستحيل حتى وقتٍ قريب، التفكير في بناء مصاف جديدة على أراضيها. تبلغ طاقة مصافي التكرير العربية نحو 7.2 مليون برميل يومياً موزعة على 60 مصفاة. وتعمل شركات النفط الوطنية في دول الخليج العربي، حالياً، بالتعاون مع الشركات الدولية، ومع مشاركة محدودة حتى الآن للقطاع الخاص المحلي من خلال طرح نسبة معينة من أسهم هذه المشاريع الجديدة في البورصات المحلية، على بناء مشاريع تكرير ضخمة تلائم أحدث القوانين والشروط البيئية المطلوبة في أوروبا والولاياتالمتحدة، ناهيك عن توفير المشتقات الشفافة التي يتزايد عليها الطلب في الدول الصناعية. فعلى سبيل المثال، تشيد في السعودية مصفاتان جديدتان بطاقة 400 ألف برميل يومياً لكل منهما. كما يجرى العمل على تشييد مصفاة ضخمة في منطقة الزور جنوبالكويت بطاقة تزيد على 600 ألف برميل يومياً، ناهيك عن تشييد مصفاة بقدرة 500 ألف برميل يومياً في الفجيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة. إن إعلان"أرامكو السعودية"، مثلاً، في آن واحد تقريباً عن اتفاقين لبناء مصفاتين بطاقة مجموعها 800 ألف برميل يومياً، يشكل نقلة نوعية وكمية في هذا القطاع الصناعي العربي المهم. والحقيقة، ان أهمية تشييد المصفاتين في هذا الوقت بالذات، وبالتعاون مع شريكين أجنبيين مهمين، وفي منطقتين مختلفتين من المملكة - لها أبعاد مهمة على صعيد الطاقة العالمي. إذ يتوافر لدى"أرامكو"اليوم طاقة تكرير محلية وتصديرية، كما تشارك في مصانع تكرير أجنبية، مجموعها 13 مصفاة بطاقة نحو 4.097 مليون برميل يومياً. ويتوقع، بحسب الخطط التوسعية المعلن عنها، ان ترتفع الطاقة التصميمية للمصافي التي تشارك فيها"ارامكو"إلى 5.315 مليون برميل يومياً عام 2015. وعلى رغم مشاركة"أرامكو"شركات أجنبية في مصافٍ محلية هدفها التصدير، مثل"موبيل"وپ"شل"في مشروعي"سامرف"وپ"ساسرف"في المملكة، أو المصافي الأجنبية الأربع في كوريا الجنوبية واليابان والولاياتالمتحدة والفيليبين، أو المصفاة قيد البناء في الصين، تعطي طبيعة وتوقيت العقدين اللذين وقّعا أخيراً، مع شركة"توتال"الفرنسية لبناء مصفاة بطاقة 400 الف برميل يومياً في الجبيل المطلة على الخليج العربي، والآخر مع"كونوكو فيليبس"الأميركية لبناء مصفاة في ينبع بمحاذاة البحر الأحمر وبطاقة 400 ألف برميل يومياً أيضاً، تعطي بعداً مهماً للمشروعين ولشركة أرامكو وسياستها التكريرية الدولية. فانطلاق هذه المشاريع في دول الخليج، بدلاً من الخارج حيث القوانين الصعبة بل التعجيزية في بعض الأحيان، قطع الطريق امام العقبة التي منعت تشييد مصاف جديدة. كما ان توقيت الإعلان عن المشاريع الجديدة، والتي كانت مدار بحث لأشهر عدة كما هو الأمر في بناء مصانع معقدة وبأكلاف عالية كلفة كل مصفاة بحدود 5 بلايين دولار او أكثر، سيقطع الطريق، ولكن لن يوقفه، أمام تلك الأصوات التي تدعي ان الدول المنتجة لا تتحمل المسؤولية اللازمة لزيادة الطاقة الإنتاجية في جميع مراحل الصناعة البترولية ولا تلعب الدور اللازم في لجم ارتفاع الأسعار. وتشير دراسات الى ان الطلب سيستمر في الارتفاع خلال السنوات المقبلة، وبعد بدء المصفاتين الجديدتين في العمل في 2011، نظراً للنمو المستمر في الاقتصاد العالمي، وازدياد عدد السكان، وارتفاع مستوى المعيشة. لكن ليس معروفاً، على رغم كل الدراسات المتوافرة، ما هي معدلات الزيادة في الطلب، ونوعية هذه الزيادة، والأسواق التي ستستهلك المشتقات الجديدة. وهذه مخاطرة تتحملها شركات النفط الوطنية، حالها حال بقية شركات النفط العالمية. كما ان الجديد في المصافي العربية الجديدة، هو توفير مشتقات صديقة للبيئة للسوق المحلية من ناحية، إذ ان معظم المصافي العربية قديمة في نمطها ولا تتناسق مع المتطلبت البيئية الحديثة. من ناحية أخرى، فإنها تفتح المجال أمام المواطنين للمساهمة الجزئية في أسهم الشركات الجديدة، وهذه بادرة غير متوافرة في شركات المصافي الإقليمية بتاتاً حتى الآن. إن توفير ولو جزء من هذه المشتقات للسوقين المحلية والإقليمية، سيساعد في تأمين الطلب المتزايد على المنتجات النفطية في الدول العربية، الذي ارتفع إلى نحو 5 ملايين برميل يومياً في 2005 وأخذ ينمو بمعدل سنوي مرتفع مقداره 4.6 في المئة بين 2000 و2005، مقارنةً بالمعدل العالمي الذي يقدر بنحو 1.5 في المئة فقط. ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع مستوى المعيشة وتوافر السيولة المالية وزيادة المشاريع الخدمية والصناعية في دول المنطقة نفسها، ناهيك عن الارتفاع المستمر في معدلات النمو السكاني وفي دول الخليج بالذات. آثار ارتفاع الأسعار على الصناعة النفطية أدى ارتفاع أسعار النفط، والقرارات المتعددة والمتزامنة لدول الخليج في زيادة الطاقة الإنتاجية من جهة، وتشييد عشرات المشاريع ذات الصلة بالبنية التحتية والعقارات والسياحة من جهة أخرى، ناهيك عن الطلب المتزايد على المواد الأولية والمعدات الصناعية والإنشائية في الصين والدول الناشئة الأخرى الى زيادة تكاليف المشاريع أضعاف التقديرات الأولية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ارتفعت تكاليف مشروع المصفاة البتروكيماوية في"رابغ"التي تشيدها"ارامكو السعودية"بالشراكة مع"سوميتومو"اليابانية من خمسة الى 10 بلايين دولار. كما ارتفعت التكاليف على شركة"شل"في مشروع"اللؤلوة"في قطر، لتحويل 1.6 بليون قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي إلى 140 ألف برميل يومياً من المنتجات السائلة، من نحو 5 بلايين إلى نحو 18 بليون دولار. وفي الكويت، ارتفعت كذلك كلفة تشييد مصفاة الزور في جنوب البلاد تزيد طاقتها على 600 ألف برميل يومياً من التقديرات الأولية البالغة 3.4 بليون دولار إلى 6.2 بليون دولار. وعلى رغم أن السعة المخطط لها في المشاريع الثلاثة تغيرت عن التصورات الأولية، وكذلك عدد ونوعية الوحدات الإنتاجية المختلفة، إلا ان ارتفاع تكاليف العقود الهندسية والإنشائية، بسبب انهماك الشركات العالمية في مشاريع عبر العالم، وزيادة أسعار المواد الخام والأولية - أدت إلى هذه الأرقام الجديدة وغير المسبوقة في عالم العقود التجارية والصناعية. كما نتج عن هذه التكاليف الباهظة تأجيل أو تأخير بعض المشاريع، إلا ان السمة المميزة لصناعة النفط العربية في الفترة قيد البحث هي المضي قدماً في زيادة الطاقة الإنتاجية في مجمل أوجه الصناعة النفطية، وذلك على ضوء المتغيرات الأساسية في الاقتصاد العالمي وولوج الدول الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية الدورة الاقتصادية الدولية وحاجاتهم الملحة والمتزايدة في المستقبل المنظور.