وفقاً للإيديولوجيا المؤسسة للسلوك الاميركي، لن يكون مفارقاً، أن يرى الى إسرائيل اليوم، كفيزياء أميركية مقدسة. ولئن كان المعنى الإسرائيلي لأميركا داخلاً في التاريخ السياسي الممتد منذ المهاجرين الأوائل قبل اكثر من ثلاثة قرون، فهو يرقى الى مراتبه القصوى لدى المحافظين الجدد في القرن الحادي والعشرين. ويعلن أميركيون كثر، ومن بينهم المحرر السابق في صحيفة وول ستريت جورنال، ماكس بوت، أن العلاقة الحميمة مع إسرائيل تبقى العقيدة الأساسية للمحافظين الجدد، معتبراً ان استراتيجية الامن القومي لدى الرئيس جورج بوش تبدو وكأنها جاءت مباشرة من صفحات ال Commentary، توراة المحافظين الجدد. وتشمل منشورات المحافظين الجدد ال"ويكلي ستاندرد"، و"كومنتاري"، وال"نيويورك ريبابليك"، و"ناشونال ريفيو"، وكذلك صفحة المحرر في"وول ستريت جورنال". وهي على قلة عددها واسعة النفوذ عبر سيطرتها على مؤسسات المحافظين ومجلاتهم. فضلاً عن قوة الارتباط بالنقابات الصحافية ومراكز القوى. المهم في الامر لدى هؤلاء هو أنهم يجاهرون بفلسفتهم التوراتية وبضرورة صون"المقدس الاسرائيلي"أياً تكن تبعات التمرين على هذه الفلسفة. وسوف يمضي عدد من رموز التيار الجديد والمحافظين الى وضع اسرائيل في مقام يتجاوز كونها"فيزياء سياسية أمنية ينبغي صون حياضها المقدس". لأنّ بعض رؤى هذه الرموز يبلغ درجة لافتة في شغفه بالكينونة الاسرائيلية الى حد جعل الحروب مفتوحة وممتدة على العالمين العربي والاسلامي، خصوصاً على البلاد المحيطة بها. ولو شئنا أن نعطي توصيفاً لهذا الشغف لقلنا إن اصحاب هذه الرؤية المؤثرة والحاسمة في السياسات الاميركية العليا، ارادوا لاسرائيل أن تؤلف نقطة جيو- استراتيجية شديدة الحساسية في الدائرة الكبرى للأمن القومي الاميركي. وثمة، من الامثلة الدّالة على هذه الرؤية، الكثير. في العام 1996 خطا التيار المتصهين في الفكر السياسي الاميركي خطوة استثنائية، إذ اعدت مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الاميركية تقريراً بعنوان:"استراتيجيا جديدة لإسرائيل في العام 2000"، وتنبثق الافكار الاساسية للتقرير من نقاش شارك فيه صانعو رأي بارزون بمن فيهم ريتشارد بيرل وجايمس كولبرت وتشارلز فيربانكس ودوغلاس فايث وروبرت لوينبرغ ودايفيد وورمزر وغيرهم. المهم ان المهندس الاساسي للتقرير هو ريتشارد بيرل، مساعد السيناتور سكوب جونسون في ذلك الوقت. وفي عنوان"انطلاقة نظيفة: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة"قُدم التقرير المشار اليه الى رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك بنيامين نتانياهو. وفيما حثّ هؤلاء نتانياهو"على دفن اتفاقات اوسلو التي كان انجزها زعيم حزب العمل الراحل اسحق رابين، وذلك بهدف اعتماد استراتيجية جديدة اكثر شراسة": تستطيع اسرائيل تشكيل محيطها الاستراتيجي، بالتعاون مع تركيا والاردن، عبر اضعاف سورية واحتوائها، او حتى دحرها. في استراتيجية بيرل ورفاقه تبقى سورية هي العدو لاسرائيل، لكن طريق دمشق تمر في بغداد. واذا كانت الخطة تشجع اسرائيل على اعتماد"مبدأ الاستباق"، فإن المبدأ عينه بات الآن مفروضاً على الولاياتالمتحدة بواسطة المجموعة عينها. وفي العام 1997 قال بيرل في ورقة وضعها تحت عنوان"استراتيجية من اجل اسرائيل":"إن على تل ابيب اعادة احتلال"المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية... وإن جاء الثمن بالدم مرتفعاً". من جانبه وضع وورمزر خطط حرب مشتركة لاسرائيل والولاياتالمتحدة"لتوجيه ضربة حاسمة الى مراكز الاصولية في الشرق الاوسط. ويجب على اسرائيل والولاياتالمتحدة التوسع في الضربة بما يتجاوز مجرد نزع السلاح الى القضاء الكلي على مراكز الاصولية، وسيكون من شأن ذلك تكوين قناعة شاملة بأن محاربة الولاياتالمتحدة او اسرائيل هو انتحار". وهو دعا البلدين الى الانتباه للأزمات معتبراً انها"قد تكون فرصاً". وقد نشر وورمزر خططه المذكورة في اول كانون الثاني يناير 2001، اي قبل بضعة اشهر من تفجيرات 11 ايلول سبتمبر. وكان الكاتب مايكل ليند يتحدث عن عصبة بيرل وفايث ووورمزر بقوله:"إن اليمين الصهيوني الذي ينتمي اليه بيرل وفايث وعلى رغم قلته العددية، فإنه يتمتع بنفوذ كبير في دوائر صنع القرار مع الجمهوريين. إنها ظاهرة تعود الى سبعينات وثمانينات القرن الفائت حين عمد عدد من المفكرين اليهود الديموقراطيين الى الالتحاق بتحالف ريغان. واذا كان كثيرون من هؤلاء الصقور يتحدثون علناً عن حملات صليبية من اجل الديموقراطية، فإن الهمّ الأساسي لدى عدد من المحافظين الجدد هو السلطة وسمعة اسرائيل. وعلى رغم غلبة هذا التيار وسيادته على مركز القرار في الولاياتالمتحدة، فثمة من الخبراء الاميركيين من يطلق صرخته من سوء العاقبة المنتظرة بسبب من العمى الايديولوجي الذي يسيطر على السياسات الاميركية في الشرق الاوسط والعالم. دعونا نقرأ اخيراً بعض ما كتب باتريك بوكانان في مقالته المستفيضة حول الوقائع الدراماتيكية التي جعلت الادارة الاميركية في عهد بوش الابن تؤول من آخرها الى الزاوية اليهودية الحادة: الاسرائيليون اصدقاء اميركا ولهم الحق في السلام والحدود الآمنة، علينا مساعدتهم في تحقيق ذلك. نحن كأمة لدينا التزام خلقي دَعَمَه اكثر من ستة رؤساء ويدعمه الاميركيون وهو عدم ترك هذا الشعب، الذي طالما عانى الكثير، يتعرض لرؤية بلاده تُدمّر، وسوف نفي بالتزاماتنا. لكن المصالح الاسرائيلية والاميركية - بحسب رؤية بوكانان النقدية - ليست شيئاً واحداً. فقد خدعت اسرائيل اميركا مرات على امتداد نصف قرن، ابرزها ما قام به عملاء الموساد في الخمسينات حين فجروا منشآت اميركية لجعل الامر يبدو من فعل المصريين ومنها في مرحلة متأخرة عندما كُلِّف جوناثان بولارد بسرقة اسرارنا النووية. ثم يخلص بوكانان الى القول ان على رغم اننا كررنا مراراً اننا نقدّر الكثير مما حققه هذا الرئيس"لأنه لن يستحق اعادة انتخابه اذا لم يتخلص من عبء المحافظين الجدد وبرنامجهم المتضمن حروباً لا تنتهي على العالم الاسلامي، وهو الامر الذي لا يخدم الا مصالح دولة هي غير الدولة التي كان انتُخب للحفاظ على مصالحها". لم يكن انبعاث"العصب الاسرائيلي"لاميركا في زمن المحافظين الجدد، إلا لتأكيد الميتافيزيقا التاريخية التي رست عليها المقولة الاميركية. وهذا"العصب"الذي يمنح لاميركا معناها الاسرائيلي، مربوط بحبل وثيق الى سلسلة غير متناهية من المفاهيم التي تؤول على الاجمال الى إعادة إنتاج عقيدة الفرادة، أو ما يرسخ خرافة النوع الاميركي النادر. ذهب المسؤول السابق في البنتاغون مايكل ليدين الى تسويغ مذهب القوة اللامتناهية، وإن ادى الأمر بالولاياتالمتحدة الى أن تقوم كل عشر سنوات باختيار بلد صغير تضرب به عرض الحائط، وتدمّره، وذلك لغاية وحيدة فحسب، هي أن تظهر للجميع أنها جادة في اقوالها. لا يبدو أن هذه الأطروحة ستجد نهايتها في المدى المنظور ولعل ما حصل في صيف العام 2006 من حرب أميركية بالواسطة الإسرائيلية على لبنان يشكل أحد أبرز"التمرينات"الكبرى على نظرية حماية المملكة الصهيونية. في حين يظهر بصورة أكيدة أن التغييرات في مركز القرار الأميركي وهو ما تبيّن من سيطرة الديموقراطيين على مجلسي الكونغرس قبل أسابيع، لن تؤثر في علاقة المعنى بين إسرائيل وأميركا في شيء. * كاتب لبناني - رئيس تحرير مجلة "مدارات غربية"