القرار التعسفي الذي اتخذه الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل يومين بالدعوة لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، يذكرني بطرفة قيلت في حق زعيم عربي اشتهر بفوزه بانتخابات الرئاسة بنسبة تتجاوز ال99 في المئة. إذ تروي الطرفة أن هذا الزعيم كان يرغب في فوز الرئيس الأميركي كارتر لفترة رئاسية ثانية في عام 1980، فبعث مندوباً من عنده ليعدل نتائج الانتخابات الأميركية لتتناسب مع ما يريد. وبعد أن غاب المندوب برهةً من الزمن، تفاجأ الزعيم العربي حين علم أنه هو الفائز في الانتخابات الأميركية! ولعل وجه الشبه في الحالتين هو رفض الفهم العربي لمبدأ تداول السلطة السياسية الذي هو أساس من أساسات الديموقراطيات الغربية. فالخلافات الفلسطينية ? الفلسطينية التي تفاقمت بعد الفوز المفاجئ ل"حماس"والخسارة غير المتوقعة ل"فتح"في الانتخابات التشريعية، آلت بالوضع الفلسطيني إلى درجة خطرة، قد لا يكون قرار تعجيل الانتخابات آخرها، ولكنه قد يكون القشة التي تقصم ظهر البعير الفلسطيني. وواضح أن فوز"حماس"لم يرض"فتح"التي أصبحت تعاني من أزمة فقد مركز القوة في السلطة التشريعية، ويصعب عليها الانتظار إلى نهاية الدورة الحالية، وبالتالي فهي تريد العودة إلى مناصبها السياسية ولو بِلَيِّ عنق الديموقراطية العريقة التي عرفها الشارع الفلسطيني. ويبدو أن الخلاف الحالي الذي نتج من قرار الرئيس الفلسطيني بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، ينتقسم إلى شقين: شق قانوني وشق سياسي. فأما الشق القانوني فهو واضح. فقد أكد الرئيس الفلسطيني على"حقه"بصفته رئيساً شرعياً في إحالة الخلاف الحالي إلى"مصدر السلطات"وهو الشعب. واستند الرئيس الفلسطيني على ما رآه حقاً دستورياً له بموجب المادة الثانية في القانون الأساسي الفلسطيني، التي تنص على أن"الشعب مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية". وأعرب عن رغبته في أن يترك الخيار للشعب الفلسطيني، ليقرر مصير السلطتين التشريعية والتنفيذية. إلا أن نظرة الرئيس الفلسطيني هذه قاصرة دستورياً. فعبارة"الشعب مصدر السلطات"تعني أن الشعب هو الذي يختار ممثليه في هذه السلطات عن طريق الانتخابات العامة في الوقت المقرر لها. وأما أن يترك الباب مفتوحاً للشعب في أن يختار ممثليه في أي وقت أراد هو أو أراده رئيسه له، فهذا أمر يتنافى مع روح القانون الدستوري لأي بلد. ومعلوم أن صلاحيات الرئيس الفلسطيني الدستورية لا تخوله الدعوة إلى انتخابات عامة متى شاء، بيد أنه من المتفق عليه بداهةً عند أهل الاختصاص أن صلاحيات الرئيس أي رئيس في أي قانون دستوري تحدد سلفاً، ولا يمكن أن تترك للتأويل الشخصي. وهو الأمر المتعارف عليه في الدساتير العالمية. وبفحص دقيق للقانون الدستوري الفلسطيني، نجد أن الدستور يخلو من أي مادة تشمل تفويضاً للرئيس في الدعوة إلى انتخابات مبكرة، على أن ذلك لا يمنعه من تقديم استقالته وترك الباب مفتوحاً لانتخابات رئاسية مبكرة، إذا قبلت استقالته من ثلثي المجلس التشريعي كما نصت على ذلك المادة 371. وحددت صلاحيات الرئيس الدستورية في مواد عدة من القانون الأساسي الفلسطيني، ليس من بينها حقه في الدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة. فقد نصت المادة 39 على أن الرئيس الفلسطيني هو القائد الأعلى للقوات الفلسطينية، وفوضت المادة 40 الرئيس في تعيين ممثلي السلطة الوطنية لدى الدول والمنظمات الدولية، ونصت المادة 41 على إعطاء الرئيس صلاحية إصدار القوانين بعد إقرارها من المجلس التشريعي، وأعطت المادة 42 الرئيس حق العفو الخاص عن أي عقوبة أو خفضها، وفوضت المادة 43 الرئيس في إصدار المراسيم الموقتة في حال غياب السلطة التشريعية عن الانعقاد في ما يعرف بحالات الضرورة القصوى، كما أعطت المادة 45 الرئيس صلاحية اختيار رئيس الوزراء وحق إقالته وحق قبول استقالته، وأعطت المادة 107 الرئيس الحق في تعيين النائب العام، وأعطت المادة 109 الرئيس الحق في التصديق على حكم الإعدام الصادر من المحاكم المختصة، كما بينت المادة 110 الحالات التي يجوز فيها للرئيس إعلان حال الطوارئ. ولكن ليس بين هذا كله حق يخول الرئيس في الدعوة إلى انتخابات مبكرة. وأكدت المادة 38 من القانون الأساسي على أن"يمارس الرئيس مهامه التنفيذية على الوجه المبين في هذا القانون"، وبالتالي فإن الصلاحيات غير المنصوص عليها صراحة والتي يعطيها الرئيس لنفسه تكون تجاوزت الدستور. بل، إن المادة 113 من القانون الدستوري الفلسطيني، نصت على أنه"لا يجوز حل المجلس التشريعي الفلسطيني أو تعطيله خلال فترة حال الطوارئ". وما دام الأمر أنه لا يجوز حل أو تعطيل المجلس التشريعي حتى في حال الطوارئ، فإن القياس من باب أولى يقتضي ألا يعطل المجلس التشريعي في حال الظروف الطبيعية، وهو التأويل المتناسب مع المادة 473 التي تنص على أن يتم المجلس التشريعي مدته. يؤيد هذا الفهم، الإعلان الذي صدر من عشر فصائل فلسطينية، حين أعربت هذه الفصائل في اجتماع موحد، عن رفضها قرار الرئيس الفلسطيني ووصفه ب"غير الدستوري". وغني عن القول أن إجماع عشر فصائل فلسطينية على رأي واحد أمر ليس باليسير. النظرة القانونية الفاحصة إذاً تخلص إلى أن قرار الرئيس الفلسطيني في الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، أمر غير مخول له بنص الدستور من جهة، ومتعارض مع روح الدستور الفلسطيني من جهة أخرى. وهو الأمر الذي ما كان الرئيس الفلسطيني ليفعله لو كان حزبه يتمتع بالأغلبية في المجلس التشريعي. ولو سلمنا جدلاً بقبول حجة الرئيس الفلسطيني في"أن الشعب هو مصدر السلطات"لربما قبلنا بأن يترك الباب مفتوحاً لاستخدام هذا الزعم من السلطة التشريعية ذاتها وقتما شاءت، وهو أمر لا أظن الرئيس الفلسطيني يريد التسليم له. ولكن، بغض النظر عن الناحية القانونية الصرفة، فإن السؤال المطروح الآن هو: هل يخدم هذا القرار العباسي المصلحة الفلسطينية؟ ولعل بعض المؤشرات في رد الفعل الأولي الداخلي والخارجي، كفيلة بأن تعطي الإجابة عن هذا السؤال. فقد سارعت إسرائيل إلى تأييد قرار عباس في إجراء انتخابات مبكرة. كما أعلنت الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية عن مؤازرتها لعباس في قراره"التاريخي". ولا يخفى أن مسارعة إسرائيل والولاياتالمتحدة إلى تأييد قرار عباس كفيلة بأن تثير الشكوك حول وطنية هذا القرار في نظر رجل الشارع العربي. إذ إن الموقف الإسرائيلي لن يتماشى إطلاقاً مع المصلحة الفلسطينية الصرفة. كما أن الولاياتالمتحدة بتأييدها قرار عباس لا تدعم الديموقراطية الفلسطينية كما تزعم. فمواقف الولاياتالمتحدة من مساندة الديموقراطيات في العالم الإسلامي غير شريفة. فقد وقفت الولاياتالمتحدة موقف المتفرج من فشل التجربة الديموقراطية الأولى في الجزائر، وتعاونت الإدارات الأميركية المتعاقبة مع نظام عسكري مستبد في دولة إسلامية جاء بانقلاب على حكومة منتخبة، وقامت الإدارة الحالية بإعانة نظام عربي عسكري مستبد وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري، كان إلى عهد قريب يتصدر قائمة الخارجية الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وغضت الولاياتالمتحدة بصرها عن التجاوزات القانونية الفاضحة التي جرت في الانتخابات العراقية، ورفضت بشدة وجود مشرفين دوليين على تلك الانتخابات التي باتت اتهامات نتائجها بالزور تكاد تكون حقيقة مؤكدة، ثم وقفت الإدارة الأميركية الحالية موقف الخصم المناوئ من نتائج الانتخابات الفلسطينية الغنية عن التزكية. اليوم، ربما يقدم قرار الرئيس الفلسطيني، سابقةً قانونية للديموقراطيات الغربية عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً من غير الحاجة إلى تزوير الانتخابات كما تروي طرفة الزعيم العربي. ولعله من المناسب للرئيس الأميركي بوش أن يستلهم العبر من الديموقراطية الفلسطينية في تكييف نتائج الانتخابات التشريعية الأميركية لمصلحة حزبه. وحيث إنه من المحتمل أن يكون هناك نوع من التعطيل الفعلي لعمل الكونغرس في الفترة المقبلة بسبب التصادم المحتمل بين الأغلبية الديموقراطية والقيادة الجمهورية في البيت الأبيض، فإنه يحسن بالرئيس الأميركي أن يعد العدة الآن ليقوم بحل مجلسي الشيوخ والنواب قبل نهاية العام المقبل، ليفتح المجال أمام انتخابات تشريعية أميركية مبكرة! * حقوقي دولي