الكثير من العرب والمسلمين وبحسن نية، خدموا أميركا، لتحقيق أغراضها غير المعلنة، فالمؤمن صدوق، والعاطفة القوية قد تُعمي العيون عن مواقع الزلل، فأميركا استغلت كراهية المسلمين للنظام الشيوعي الذي يعتبر الدِّين أفيون الشعوب، وجعلت منهم أداة تحارب بها الشيوعية عدوَّها الأول في ذلك الوقت، لوقف زحف الاتحاد السوفياتي الذي كان في أوج قوته من دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تفقد جندياً واحداً، وعملت طاحونة الإعلام الأميركي على تأجيج روح العداء ضد الاتحاد السوفياتي بعد غزوه أفغانستان، وراح الإعلام العربي للأسف يغرّد مع السرب. ومن متابعة الدروس والعِبَر القاسية التي مرّ بها العرب منذ الغزو الشيوعي لأفغانستان، ومروراً بالحرب العراقية - الإيرانية، واحتلال صدام حسين للكويت الشقيق، وأخيراً - وليس آخراً - احتلال أفغانستانوالعراق نجد أن أبسط قواعد المنطق تبيّن لنا أن الأمة مستهدَفة عسكرياً واقتصادياً وحضارياً... إلخ، ولتحقيق هذه الأهداف العدوانية لا بد من أن تظل مفككة - كل دولة مشغولة بنفسها، فهذا هو الهدف الحقيقي لإسرائيل بمتطرفيها، ومن ورائها الإدارة الأميركية التي يقودها"المحافظون الجدد". فقد دفعت أميركا صدام حسين دفعاً وساقته سوقاً، ليحتل الكويت، ومهّدت له كل السبل، من أجل ذلك، لتجد مسوّغاً قانونياً، تدخل به إلى المنطقة غازيةً ومستعمرةً، وهكذا فإن أخطاء بعض القادة العرب سهّلت على أميركا تحقيق أغراضها في توفير أقصى حماية لاسرائيل، فقد كان احتلال الكويت سبباً في احتلال العراق وتمزيقه ومعاناة أهله. والبعض يصبح أداةً لأميركا، لتحقيق مآربها حين يصدّق ما تطرحه من مبادرات سلام ويَجْري وراء الأوهام، فأميركا تنادي بالسلام وتعمل ضده، وكل مبادرة سلام قدمتها - وكان آخرها خريطة الطريق - عملت دائماً على عرقلتها ووَضَعَتْ الحواجز والمتاريس أمامها. والسؤال إذاً: لماذا تطرحها إذا كانت لا تريد تنفيذها؟ والإجابة هي أنها أرادت دائماً أن تبدو وكأنها طرف محايد، حتى لا تفقد صداقة العرب، وبالتالي تفقد مصالحها في المنطقة، وثانياً، هي تريد التسويف ومن خلاله تزداد اسرائيل تسلحاً وقوةً، بينما تعمل على تفتيت قوة المسلمين وإضعافهم بشتى الطرق. وعلى رغم هذا كله هَرْوَل بعض القادة العرب إلى التطبيع مع الدولة العبرية، وأسرع بعض الكُتّاب والمفكرين يرفعون عقيرتهم صارخين، بأن السلام قد حلّ، وأن عهداً جديداً من الوئام والتلاحم والتبادل التجاري والاقتصادي والثقافي والحوار الفكري مع اليهود قد حان وقته. بعض العرب للأسف على رغم المآسي التي تلقّوها على يد اسرائيل لم يستفيدوا من الدروس، ولم يستخلصوا العِبَر، فهم ما زالوا يراهنون على السلام، يراهنون على حزب العمل أكثر من"الليكود"قبل تأسيس"كاديما"، ويقيمون الحفلات والولائم ويتبادلون التهاني إذا فاز العمل في الانتخابات، كما كانوا يتابعون الانتخابات الأميركية وأنفاسُهم تتلاحق وقلوبُهم تضطرب وملأى بالآمال، متمنين فوز بوش الابن، ظانين أنه سيكون أكثر تعاطفاً مع قضية الشعب الفلسطيني من منافسه آل غور، فلما فاز أدار ظهره للعرب، كما أدار الصهاينة ظهورهم للسلام. ألاَ يدرك هؤلاء المخدوعون أن"الليكود"و"العمل"و"كاديما"وجوه لعملة واحدة، وأن أي حزب إسرائيلي مهما كان اسمه لا خير فيه، لأنه قام على الشر وعُجِنَ بمائه؟ ماذا سيربحون من فوز قادة هؤلاء الأحزاب الأشرار أو غيرهم من الصهاينة؟ كلهم مجرمو حرب، لا يعرفون إلا لغة العنف والقهر والإرهاب، أيديهم ملطخة بدماء العرب. لقد كان هؤلاء المخدوعون يتمنون زوال شارون لدمويته وبطشه، فإذا الذي يحل محله هو أولمرت الجزار صاحب الجرائم الفظيعة في بيت حانون وبقية الأراضي الفلسطينية، وقبلها في قانا، ليكمل المسلسل الإجرامي لمَنْ سبقوه من الصهاينة مصاصي الدماء من بيريز ونتانياهو وشارون وغيرهم، الذين عاثوا في الأرض الفلسطينية والعربية فساداً فذبحوا الأطفال والنساء والشيوخ وروّعوا الآمنين، وهدّموا البيوت على رؤوسهم أمام سَمْعِ العالم وبصره، ولكنه عالم مُصاب بالعمى والصمم. وسؤال بريء لهؤلاء الطيبين المخدوعين بإمكان التطبيع هو: هل فهمتم لماذا صرّح ايهود اولمرت بأن إسرائيل تمتلك سلاحاً نووياً في هذا الوقت بالذات؟ إنه يريد أن يقول إنه لم يستطع أحد أن ينزعه منا حقاً بالوسائل السلمية ولن يستطيع، فإن فكرتم في البديل - أي القوة - فنحن نمتلك السلاح النووي، وهو ما لا طاقة لكم به، لأنكم صفر اليدين منه. وإذا كان أولمرت قد عاد بعد الضغط عليه من الداخل الإسرائيلي وعدل عن اعترافه بامتلاك الدولة العبرية للسلاح النووي خلال مؤتمر عقده مع المستشارة الألمانية ميركل بتاريخ 12 كانون الأول ديسمبر الجاري، واعتبرها الإسرائيليون"زلة لسان"، فإن العالم يدرك أن إسرائيل وبغطاء أميركي وغربي بدأت مشروعها النووي فور إنهاء العدوان الثلاثي على مصر 1956. واليوم تملك 11 موقعاً نووياً، أهمها مفاعل"ديمونة"، ووكالة الطاقة النووية تعترف بهذا، ويقدر الخبراء مخزون الترسانة النووية الإسرائيلية بأنه يتراوح ما بين 250 و400 رأس نووي، ومع هذا تستمر الدولة الصهيونية بالخداع والكذب. لكن الأهم أن أولمرت وقبله وزير الدفاع الأميركي الجديد أوصلوا الرسالة بشكل واضح إلى كل العالم خصوصاً العرب، ويدعي أولمرت المتطرف أن السلاح النووي في أيدي دول ديموقراطية ومتحضرة، ومنها إسرائيل وأميركا وروسيا، وهذه الدول لا تهدد أحداً. فالحقيقة أن أميركا احتلت أفغانستانوالعراق وأعادتهما إلى القرون الوسطى بقوتها المدمرة، وإسرائيل وبدعم أميركا الصارخ احتلت أراضي العرب بالقوة. فمنذ عام 1947، وهي تشن الحرب تلو الأخرى على العرب الذين ينشدون السلام الضائع في دهاليز الإدارة الأميركية، التي غَرِقت في"وَحل"العراق، مدعيةً أن إحراز السلام في أرض الرافدين بإحلال الديموقراطية فيه، يُنهي الصراع العربي - الإسرائيلي، فتاه السلامُ ليصبح سراباً. ومن هنا فإن مَنْ ينادُون بالتطبيع مع الدولة العبرية فإنه لا يمكن أن يكون من دون ثمن، والثمن حدّدته المبادرة العربية للسلام التي اعتمدتها قمة بيروت عام 2002، والدولة العبرية ترفض دفع الثمن، وهذا هو الذي جعل أولمرت يبدي انزعاجه الواضح من تقرير"بيكر - هاملتون"والذي أشار إلى أن حلّ الصراع العربي - الإسرائيلي هو المفتاح لحل الأزمات الأخرى في الشرق الأوسط، كما أشار إلى حق العودة للفلسطينيين، وليس أولمرت وحده الذي أبدى انزعاجه من هذا التقرير، بل كل الإسرائيليين أبدوا امتعاضهم ووصفوه بالسيئ، وكيف لا يكون سيئاً وهو يطالبهم برد بعض الحق إلى أصحابه؟ وبالخبث الصهيوني المعهود، وفي محاولة لضرب الرؤوس ببعضها وكَسْب الوقت والظهور بمظهر الحريص على السلام قالت الأوساط السياسية الإسرائيلية، منتقِدةً التقرير وواضعيه إنه أغفل المبادرة العربية للسلام التي أقرتها القمة العربية عام 2002، والتي رفضتها إسرائيل فور إعلانها، بل إن المجرم أولمرت لم يتطرق حتى الى ذكر المبادرة آنذاك، ومع صدور التقرير الذي يعوّل أولمرت على بوش لرفضه، أقر رئيس الحكومة الإسرائيلية أخيراً بأن المبادرة تتضمن عناصر مثيرة للاهتمام، وكأنه يلوّح بقبولها، وهو لن يفعل فهذه شطحات مكر، جاءت رد فعل على تقرير"بيكر - هاملتون"! لا أحد يشك في أن العرب - كل العرب - ضد التطبيع مع إسرائيل، إلا إذا تمت استعادة كل حقوقهم المشروعة، وفي مقدمها القدس وإقامة الدولة الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية، والجلاء عن الجولان ومزارع شبعا، وعودة اللاجئين، كما جاء في نصوص المبادرة العربية للسلام التي فَتَحَتْ الباب مشرعاً لمن يريد السلام، فليت من ينادُون بالتطبيع يعودون إلى التدقيق في حساباتهم الخاطئة، وإذا كان قد قيل إن المؤمن لا يُلْدَغ من جُحْر مرتين، إلا أنه يبدو أننا على استعداد لنُلْدَغَ من جُحْر أميركا عشرات المرات، بل نستمرئ لدغاتها، ونظن واهمين أن فيها شفاءً. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية