مفردات أخرى يقسم توماس بينشون القراء والنقاد كالعادة في روايته الجديدة"استعداداً للنهار"الصادرة في بريطانيا عن دار جوناثان كيب. الكاتب الأميركي الذي يعيش"خفياً"في مانهاتن، إما أبدع إنجيلاً آخر لاتباعه او كتب رواية فوضوية مزعجة وإن كانت مثقفة وواسعة الاطلاع."ذا نيويورك تايمز"لم تطق"الأحجية القصصية الضخمة، المنتفخة، المدعية من دون أن تحرّض، الموجزة من دون ان تنوّر". صنع بينشون جزءاً كبيراً من هالته بالاختفاء منذ بدأ الكتابة، وإن ميّز نفسه عن ج. د. سالنجر مؤلف"الحارس في الجاودار"بالاستمرار في النشر. في التاسعة والستين اليوم ويعيش مع زوجته ومديرة أعماله ميلاني التي تزوجها في أوائل التسعينات وابنه جاكسون الذي بلغ الخامسة عشرة. منذ عقد اصطادته"سي أن أن"يمشي في نيويورك وهو يرتدي الجينز ويضع قبعة بيسبول. استخدم الكاتب نفوذه لمنع الشبكة من بث الشريط لكنها فعلت وإن لم تحدده وسط الأصدقاء الذين كانوا معه. كلمة"منعزل"غير ملائمة، قال لپ"سي أن أن"، فهو يعيش حياة نشطة في عاصمة الإعلام في أميركا، والكلمة اختراع الصحافيين لمن لا يتحدث اليهم. يتبين القارئ النبيه خطين قصصيين في"استعداداً للنهار"التي تتمدد لتبلغ أكثر من ألف صفحة. يكره عامل منجم نقابي النظام الرأسمالي - الصناعي، ويبدأ بتفجير العبوات تمهيداً لولادة حركة فوضوية. يأمر صناعي كبير بقتله فيكرس اثنان من أبنائه نفسيهما للانتقام في حين يقبل الابن الثالث بتمويل الصناعي دراسته وتتزوج ابنة عامل المنجم ابن الصناعي. تبدأ الرواية بمنطاد يتجه نحو المعرض الدولي في شيكاغو في 1893، وتنتهي بعد الحرب العالمية الأولى، وتتسع صفحاتها ال1085 لعوالم يمتزج فيها الواقع والخيال العلمي. تسرح فيها الكلاب الناطقة والمخترعون المجانين المنهمكون بصناعة آلة الزمن التي تقفز بين الماضي والحاضر. بينشون درس الهندسة والفيزياء ثم الأدب الانكليزي في جامعو كورنيل، وتظهر خلفيته العلمية في اهتمامه بالقوة الكهربائية - المغنطيسية وإشعاع الموت ونظريات عبور الزمن. وفي روايته صراعان، القوي الثري ضد الضعيف الفقير، ورسالة بسيطة دافئة دهش البعض بوجودها في الرواية الثقيلة. علينا التمتع بكل ما هو"عزيز علينا، وجوه أطفالنا، الغروب، المطر، عطر الأرض، الضحك، لمسة الحبيب، دم العدو، طعام أمك، النبيذ، الموسيقى، الفوز في الرياضة، الغرباء الجذابين، الجسد الذي تشعر بحقيقتك داخله، نسمة البحر على جلد عارٍ". عمل فترة كاتباً تقنياً في شركة بوينغ في القسم الذي صنع الصواريخ المضادة للطائرات الطويلة المدى. كتب في الوقت نفسه روايته V التي صدرت في 1963 وأتبعها بپ"بكاء الرقم 49"ثم"قوس قزح الجاذبية"التي كوفئت بجائزة الكتاب الوطنية، وعجزت عن نيل بوليتزر لأن اللجنة الحكم وجدتها"غير قابلة للقراءة، طنانة، مشغولة وشائنة". بقي مخلصاً للحداثة وما بعد الحداثة في"ميسون وديكسون"التي صدرت في 1994 واستكشفت مثالية ما بعد الحرب والانهيار المالي في أواخر العشرينات. قد يوحي عالمه الغرائبي تأثراً بالمخدرات لكن لبينشون مفردات أخرى. روايته الأخيرة لا تدور في العالم كما هو بل بعد إحداث تغيير صغير أو اثنين فيه. استنفار شغلت صحيفة شعبية الوسط الأدبي البريطاني واستنفرته للدفاع عن أحد نجومه؟ بعد وفاة الكاتبة لوسيلا اندروز في تشرين الأول اكتوبر الماضي عن ست وثمانين سنة اتهمت"ذا ميل أون صنداي"مؤلف"تكفير"بنسخ مقاطع من روايتها"لا وقت للحب"التي وصفت فيها الإصابات البشعة لجرحى الحرب العالمية الثانية. طورت المطبوعة الشقيقة"ذا ديلي ميل"الاتهام من نسخ الى نحل فهب كتاب بارزون على ضفتي الأطلسي لنجدة إيان ماكيوان الذي رشحت روايته لجائزة بوكر عند صدورها. وقف مارتن اميس وكازو ايشيغورو وزيدي سميث وسارة ووترز وروز تريمين في الضفة البريطانية وتوماس بينشون وجون أبدايك ومارغريت اتوود وبيتر كيري في الضفة الأميركية. قال أميس ان الرواية التاريخية لا تكتب إلا بمساعدة المصادر التاريخية. جون أبدايك افترض عند قراءته"تكفير"ان"المعلومات المدهشة"فيها أتت من المقابلات أو الكتب. حتى توماس بينشون الذي يعتمد الناشر نفسه، جوناثان كيب، خرج قليلاً الى الضوء. ماكيوان يستحق امتناننا لا تقريعنا، قال، وعلينا الاستعانة بمن كانوا هناك أو الرسائل والتقارير الصحافية المعاصرة والموسوعة والانترنت إذا لم نشهد الحدث. روز تريمين التي نالت جائزة ويتبريد عن كتابها"صمت وموسيقى"باحت انها اعتمدت على كتاب صغير جداً، والى درجة تثير الصدمة، في كتابته. أول من أشار الى التشابه بين"تكفير"وپ"لا وقت للحب"كانت الطالبة في اوكسفورد ناتاشا اولدن خلال إعدادها أطروحة دكتوراه حول طريقة استخدام التاريخ في الرواية المعاصرة. لم تتهم ماكيوان بنحل اندروز لأنه ذكرها بين مصادره في آخر الرواية. الكاتب نفسه قال القليل لأنه"مرتاح الضمير". استند الى اندروز التي عملت ممرضة في الحرب كمصدر فريد يزود مشاهد المستشفى في الرواية بالدقة والواقعية. ماكيوان كريم لدى مراجعة أعمال زملائه، لكن شعبيته بينهم تتعدى الامتنان الى الدفاع عن النفس بإزاء اتهام يشوه صدقية الكاتب حياً وميتاً. أنا أنا أنا يبدو كنزلي آميس في سيرته الأخيرة للمؤلف زاكاري ليدر الصادرة عن دار جوناثان كيب طفلاً بدائياً لم يتجاوز مرحلة الشراهة الغافلة والخوف الغامض. تسامى بالشراهة وجعلها فلسفة بات معها الجيد ما يشبع الحاجات والرغبات الجسدية، وقال بلا خجل أو تلطيف:"أريد مقدار ما أستطيع تحمله". وعندما قصد يوماً مطعماً في برنستون مع زملائه أنذرهم قبل الدخول:"أريد أكثر من حصتي قبل أن ينال أيكم حصته". حتى انه سابق طفل طليقته هيلاري الى حبة خوخ، ويتذكر ابنه الكاتب مارتن الصرخة الخشنة البشعة التي أطلقها في ذلك العشاء"مثل طفل يحتاج أمه". ولد وعاش في الريف وبقي ريفياً لم تهذب المدنية سلوكه الغرائزي. كتب يوماً بشيء من الحسد ان طفولة رديارد كيبلنغ التعيسة في مدرسة داخلية في بريطانيا بعيداً من أهله في الهند كانت فريدة القيمة في جعله كاتباً. كان"اقل"لولاها وليس مختلفاً فحسب. تحسر آميس على طفولته هو مع أم تزوده بالحماية وأب يصدر الممنوعات. لكن طفولته صنعته، ودامت مخاوفها وعصابها حتى الكبر. خشي الوحدة والظلام، وكان على هيلاري، زوجته الأولى، أن تمشي هي معه الى بيته بعد أول موعد لهما. ارتجت طائرة ركبها وهو طفل فامتنع عن ركوبها طوال حياته. شرب لكي يقوى على مخاوفه لكنه ازداد خوفاً بالشرب عندما قل وعيه وتحكمه بنفسه. وعندما استهلك ذات ليلة كمية هائلة صرخ من الذعر وغطى فمه بأريكة لكي لا يسمح صراخه ويزيد خوفه. كانت النساء من الأشياء الجيدة في الحياة وأراد منهن أكثر من حصته. أثناء دعوة الى العشاء في منزله اختفى مع كل من المدعوات على التوالي في حين تظاهر الرجال انهم لم يلاحظوا شيئاً. تزوج صديقته هيلاري بعد أن حملت وهي في السابعة عشرة عندما كان كلاهما يدرس في اوكسفورد. اضطر الى الزواج بها لأن الإجهاض كان ممنوعاً ثم تركها ليتزوج جين هوارد التي أحبت الأدب وبدت رفيعة المستوى خلافاً لهيلاري. على انه طلق جين أيضاً، وكان على نجليه فيليب ومارتن أن يجدا حلاً لعجزه عن تدبر أموره بنفسه. لماذا لا تعيش والدتهما هيلاري وزوجها الثالث اللورد كيلمارنوك المعدم معه في منزله؟ تبادل الطرفان المنافع وكتب كنزلي بعض أفضل أعماله. لم يتعلم قيادة السيارة، وخاف الرد على المكالمات الهاتفية، وعجز عن شراء بطاقة التنقل أو تناول الأدوية. كره النساء والمثليين واليهود، ورأى ان الحل في جنوب أفريقيا يكمن في قتل أكبر عدد ممكن من السود. سكب حياته في أدبه، وكتب باكورته"جيم المحظوظ"التي يراها كثيرون أفضل أعماله بالتعاون مع صديقه الشاعر فيليب لاركن الذي عدل مقاطع كثيرة فيها بعدما رفضها الناشر. ربما كانت أكثر رواياته طرافة بفضل لاركن الذي اتفق معه على نبذ الثقافة الرفيعة والتفوق الأكاديمي وتفضيل الجاز وشرب البيرة والصخب. هجست أعماله بالأنانية الذكورية التي سادت الخمسينات بعد نهاية الحرب وتغير المجتمع ونظرة النساء الى أنفسهن. كان موضوع"خذي فتاة مثلك"وپ"ذلك الشعور غير الأكيد"شراهة الرجل الجنسية التي تفرض على الفتاة التجاوب وتأخذ القرار عنها. لخص فلسفته في عنوان رواية أخرى من الستينات"أريدها الآن"التي رغب بطلها الآن الآن وليس غداً في النساء والكحول والنجاح. روى خوفه من الطيران في"أحب الحياة هنا"ومن العمر في"النهاية"، وكتب علاجه من التراجع الجنسي بفعل الشرب في"شيء جيك". فشل زواجه الثاني فكتب"ستانلي والنساء"ونال"شياطين عجائز"جائزة بوكر التي عصت على ابنه مارتن.