تحولت قضية الجاسوس الروسي المنشق الكسندر ليتفينينكو الى واحدة من اكثر ملفات الاغتيال إثارة ربما في التاريخ المعاصر كله، إذ لم يسبق ان أحيطت جريمة قتل بكل تلك الملابسات الغريبة التي أحاطت بموت العميل السابق لأجهزة الاستخبارات الروسية في لندن، ولا تقتصر الإثارة على كون القاتل او القتلة لجأوا الى استخدام ما يمكن وصفه عملياً بأنه"قنبلة نووية صغيرة"للتخلص من الرجل، فالحبكة البوليسية التي أحاطت بكل التفاصيل التي تكشفت تباعاً منذ وفاة الجاسوس منحت القصة أبعاداً ربما تنكشف بعض تفاصيلها مع تقدم التحقيقات، على رغم ان كثيراً منها يتوقع ان يظل غامضاً فترة طويلة. وثمة كثير من الأسئلة العالقة تسعى الشرطة البريطانية اسكتلنديارد الى تحري حقيقتها، منها الامور المتعلقة بالشخص نفسه، وطبيعة نشاطه خلال السنوات الأخيرة، اضافة الى ملابسات موته. فالبعض يتساءل عن الاسباب التي دفعت الرجل للتجول حاملاً الإشعاعات الناجمة عن الشحنة النووية في كل شوارع لندن وفنادقها ومطاعمها، تاركاً في كل مكان يدخله آثاراً إشعاعية، وكل هذا في يوم الأول من تشرين الثاني نوفمبر الماضي الذي شهد ايضاً سلسلة لقاءات أجراها ليتفينينكو مع عدد كبير من عملاء الأجهزة الخاصة السابقين والحاليين ورجال أعمال ومعارضين روس، وصولاً الى الوصية الغريبة التي تركها الرجل قبل ساعات من موته ووجه فيها أصابع اتهام مباشرة الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وخلال الأسابيع الثلاثة اللاحقة التي قضاها ليتفينينكو يصارع الموت ظهرت عشرات الفرضيات منها ما هو شديد الغرابة يمنح القصة أبعاداً جديدة مثل الحديث عن ان الرجل اعتنق الإسلام في أيامه الأخيرة وهي رواية نفت مصادر كانت مقربة منه صحتها بعض الوقت ثم عادت وأقرت بحقيقتها. وان شيشانيين قتلوه انتقاماً بسبب نشاطه السابق. والمثير في قضية ليتفينينكو انها تفتح مرة واحدة ملفات عدة، تجمعت خيوطها بقدرة تثير العجب عند شخص واحد فر من موسكو قبل سنوات ليلقى حتفه في العاصمة البريطانية في ظروف غامضة، منها الحرب الشيشانية ودور الكرملين في تأجيجها، والصراع مع حيتان المال الروس، ومسائل حرية الكلمة والديموقراطية في روسيا، ودور الأجهزة الخاصة الروسية في إدارة البلاد منذ وصول بوتين الى السلطة عام 1999 في 17 تشرين الثاني عام 1998 أي قبل ثماني سنين كاملة على وفاة الجاسوس الروسي، شهدت موسكو حدثاً آثار ضجة لبعض الوقت في الأوساط الإعلامية والسياسية، إذ عقدت مجموعة من الرجال الذين اخفوا وجوههم بأقنعة مؤتمراً صحافياً في مقر وكالة"انترفاكس"الروسية فجروا خلاله قنبلة إعلامية لأن الحديث تمحور فيه حول"النشاط الإجرامي لهيئة وزارة الأمن الفيدرالي الروسي المعروفة اختصاراً باسم"في اس بي"أي جهاز الاستخبارات الذي أقيم على أنقاض الاستخبارات السوفياتية المشهورة"كي جي بي". واستمع الصحافيون الحاضرون في ذلك اليوم الى تفاصيل رواها ضباط في هذا الجهاز عن ممارسات الأجهزة الخاصة الروسية وانتهاكاتها الهادفة الى تعزيز سيطرتها على الأوضاع في روسيا، وبرز من بين الحضور احد ضباط الجهاز كونه الوحيد الذي لم يلجأ الى إخفاء هويته وراء القناع الأسود، وهو المقدم الكسندر ليتفينينكو الذي جلس كاشفاً وجهه وقال ان"القيادة كلفته بقتل بوريس بيريزوفسكي"احد ابرز حيتان المال والذي كان حتى تلك الأيام يحظى بنفوذ طاغ في روسيا، وانه أي ليتفينينكو رفض تنفيذ الأوامر ما عرضه لغضب قيادته، وأورد العميل تفاصيل إضافية، إذ قال ان نائب رئيس القسم الذي خدم فيه وهو ضابط أطلق عليه اسم ينينين هدده امام زملائه واتهمه ب"عرقلة الوطنيين المخلصين عن قتل اليهودي الذي سرق نصف البلد"في اشارة الى بيريزوفسكي نفسه. وبالطبع قامت الدنيا ولم تقعد بعد المؤتمر الصحافي - الفضيحة، ونفت إدارة الجهاز بشدة صحة ما ورد خلاله، وألمحت الى مؤامرة تهدف الى الإساءة الى الجهاز يقف وراءها متنفذون من رجال المال والأعمال الملاحقين بتهم فساد ونهب. وبعد مرور وقت قصير على ذلك وجهت النيابة العامة العسكرية تهمة إساءة استخدام السلطة ضد ليتفينينكو واحتجزته بعد العثور على كميات من المتفجرات في حوزته، وكشفت عن تحقيق داخلي كان الرجل يخضع له منذ فترة بسبب مخالفات فظة، ولم يلبث التحقيق ان تحول الى علني وتم اعتقال ليتفينينكو رسمياً وقضى بضعة شهور في السجن لتقع مفاجأة اخرى في ايلول سبتمبر من السنة التالية، إذ أصدرت المحكمة قراراً بالإفراج عن العميل الروسي لعدم كفاية الأدلة وأطلقت سراحه مباشرة من قاعة المحكمة، لكن ليتفينينكو لم يصل حتى الى باب المحكمة لأن عملاء جهاز الأمن أعادوا اعتقاله بعد دقيقتين على صدور الحكم وحول هذه المرة الى مبنى"في اس بي"لإعادة التحقيق معه. المثير في القصة كلها ان ملف التحقيق تمت لفلفته لاحقاً، وعلى رغم مواصلته رسمياً خرج ليتفينينكو الى الحرية، لكنه لم يعد الى عمله في الجهاز الأمني بل انتقل الى ديوان رابطة الدول المستقلة التي كان بيريزوفسكي آنذاك يشغل منصب سكرتيرها العام، وكاد اسم ليتفينينكو ان يطويه النسيان بعد شهور حتى أعلن فجأة انه فر الى بريطانيا عام 2000 وهناك قدم طلباً لمنحه لجوءاً سياسياً. بدا واضحاً ان الرجل الذي"رفض يوماً اغتيال بيريزوفسكي"هو من ابرز المقربين الى الثري اليهودي، ففي لندن كان أول نشاط ضخم ارتبط باسم ليتفينينكو هو صدور الكتاب الشهير"من فجر روسيا؟"الذي يحوي اتهامات مباشرة للأجهزة الخاصة الروسية وللرئيس بوتين بالوقوف وراء سلسلة تفجيرات الأبنية السكنية التي حصدت عام 1999 أرواح مئات المدنيين وروعت روسيا كلها لشهور. وبحسب صاحب الكتاب فإن هدف الحملة تمثل في فتح الطريق امام وصول بوتين الى السلطة راكباً عربة ملف التدهور الأمني. واعتبرت أوساط روسية ان صدور هذا الكتاب يدخل ضمن حملة قوية بدأها بيريزوفسكي ضد الكرملين بعدما فتحت النيابة العامة الروسية تحقيقاً واسعاً في نشاطه المالي ووجهت إليه اتهامات بالسرقة والاختلاس والتهرب من دفع الضرائب والسيطرة خلال مرحلة الإصلاحات العشوائية على جزء كبير من اسهم شركات كانت مملوكة للحكومة. المهم ان أوساط المعارضة وخصوصاً بين رجال المال الفارين من روسيا، وكذلك الأوساط الغربية التي عارضت توجهات الكرملين الجديدة تلقفت الكتاب بقوة وروجت له على أوسع المستويات، ومنذ عام 2000 ارتبط اسم ليتفينينكو نهائياً بمعسكر بيريزوفسكي المعارض ل"السلطة البوليسية القائمة على نفوذ الأجهزة الخاصة في روسيا". شكل إعلان الأجهزة المختصة في بريطانيا العثور على آثار مادة مشعة في جسم العميل الروسي المقتول مفاجأة كبرى لمختلف الأوساط المهتمة داخل روسيا وخارجها، وتدل التحقيقات الجارية حتى الآن الى ان ليتفينينكو تعرض لجرعة قاتلة من مادة بلونيوم 210 المشعة خلال تواجده في احد مطاعم العاصمة البريطانية حيث التقى مع عميل ايطالي هو ماريو سكاراميللا قدم خصيصاً الى بريطانيا وأصر على مقابلة ليتفينينكو في ذلك اليوم ليحذره من"خطة وضعتها الأجهزة الخاصة الروسية تستهدف قتله ضمن مجموعة من الأشخاص المعارضين للكرملين". وما ان تم الكشف عن الآثار المشعة بعد نحو أسبوعين قضاها الأطباء في حل لغز التسمم الغريب الذي أصاب الرجل حتى بدأت الفرضيات المختلفة بالظهور، وكان من الطبيعي ان تبرز فرضية تورط الأجهزة الخاصة الروسية في الحادث، فاستخدام مادة مشعة ليس متوافراً لأي طرف، والمحققون البريطانيون لا يخفون شعورهم بأن وراء العملية جهة منظمة أياديها طويلة جداً وإمكاناتها لا حدود لها. وشكل ربط عملية قتل ليتفينينكو بحادث اغتيال مدو كان سبقها بأسابيع عنصراً اضافياً لتوجيه الاتهام الى الكرملين، إذ أشار أشخاص عديدون التقاهم الجاسوس الروسي يوم تعرضه للتسمم حيازته معلومات حول الجهات التي قتلت الصحافية الروسية المعارضة انا بوليتكوفسكايا، ما فتح المجال للحديث عن"سلسلة اغتيالات تستهدف معارضين روساً"، وعلى رغم ان الاستخبارات الخارجية الروسية نفت بقوة صحة الاتهامات المنسوبة إليها، زاد تاريخ الأجهزة الخاصة الروسية في عمليات التخلص من المعارضين من قوة هذه الفرضية، اضافة الى الرسالة الغامضة التي وجهها ليتفينينكو نفسه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة واتهم فيها الرئيس بوتين بتوجيه أوامر لقتله. والأكيد ان بعض الملابسات توحي بدور للأجهزة الروسية في الحادث، إذ كان اسم ليتفينينكو عاد الى الظهور بعدما نسيه البعض في روسيا بعد مرور أسبوع على مقتل بوليتكوفسكايا، عندما انتشرت إشاعات في روسيا تقول ان الجاسوس المنشق استدعي للإدلاء بشهادته في التحقيقات الجارية، ونفت مصادر أمنية سألتها"الحياة"وجود مثل هذا الاستدعاء وقالت ان ليتفينينكو ملاحق بتهم مختلفة وليس وارداً استدعاؤه للمثول امام جهات التحقيق الروسية. والمهم في الموضوع ان تناقضاً مثيراً لف هذه الفرضية، فمن جانب يجري الحديث عن توافر معلومات بحوزة الجاسوس حول هوية قتلة بوليتكوفسكايا وهي رواية عاد تأكيدها والده والتر لاحقاً وأطراف آخرون منهم العميل الإيطالي سكاراميللا، ومن جانب آخر فإن ليتفينينكو بحسب غالبية الروايات التقى في لندن في الأول من تشرين الثاني من ضمن من التقاهم منشقاً روسياً آخر نقل إليه رسالة من عميل سابق للأجهزة الروسية مسجون حالياً بتهم إفشاء أسرار الدولة تضمنت معلومات حول الجهات التي اغتالت الصحافية المعارضة وهذا يعني ان ليتفينينكو لم يكن بحوزته معلومات قبل ذلك حول هذا الملف، ما يدل بحسب جهات روسية الى ان محاولة أطراف من المعارضة المقيمة في لندن الربط بين حادثتي موت ليتفينينكو وبوليتكوفسكايا بدأ في وقت متأخر وهدف الى تحقيق مكاسب اكبر عبر اتهام الكرملين بتصفية حساباته مع الشخصين في إطار مخطط واسع يستهدف أيضاً آخرين. وهذا يقود الى الفرضية الثانية التي روجتها أوساط روسية، وهي تشير بأصابع الاتهام الى البليونير بوريس بيريزوفسكي الذي يتهمه الروس بالوقوف وراء مؤامرة ضخمة تهدف الى زعزعة الأوضاع في روسيا وعزل قيادتها ضمن تحضيرات مواجهة احتمالات ترشيح شخص مقرب من بوتين خلال الاستحقاق الانتخابي عام 2008. واللافت ان تطور التحقيق كشف عن تفاصيل اعتبرها البعض"جملة مصادفات غريبة"إذ اتجهت الأنظار نحو الجاسوس الروسي السابق اندريه لوغوفوي كمشتبه به أساسي بعدما دلت التحقيقات الى وجود آثار المادة المشعة عنده والى انه حملها الى أماكن لم يزرها ليتفينينكو ما دفع المحققين الى دراسة احتمال ان يكون لوغوفوي هو من نقل المادة الخطرة الى الجاسوس القتيل. ولم تكد تمضي ايام بعد ذلك حتى ظهر اسم معارض روسي آخر هو ديمتري كوفتون بعدما عثرت السلطات المختصة الألمانية على آثار المادة المشعة في منزله في مدينة هامبورغ. المهم في الموضوع ان كوفتون ولوغوفوي التقيا ليتفينينكو معاً يوم تسممه قبل وقت قصير على لقاء جمع ليتفينينكو مع العميل الإيطالي سكاراميللا، وتدور الشبهات حول احتمال ان يكون احدهما او كلاهما شاركا في عملية تسميم ليتفينينكو. وإذا ثبتت صحة هذه الرواية فإن الأصابع سوف تتجه على الفور الى بوريس بيريزوفسكي نفسه فالرجلان من المقربين إليه. ولا تستبعد أجهزة الأمن الروسية هذه الفرضية ويشير البعض الى سجل طويل لبيريزوفسكي في التخلص من أعدائه او أصدقائه الذين يحاولون الانقلاب عليه، وبحسب مصدر امني فإن أنظار المحققين الروس اتجهت أخيراً إلى هذه الفرضية بقوة، ومعلوم ان موسكو تطالب السلطات البريطانية بتسليم بيريزوفسكي الذي تتهمه باختلاس أموال عامة والسرقة والاحتيال، وأضيفت الى لائحة الاتهامات قبل شهور المشاركة في القتل، بعدما تبين ان شخصاً مقرباً من بيريزوفسكي قتل سياسياً يمينياً كان على خلاف مع الأخير وأدلى باعترافات كاملة اثناء محاكمته. الفرضية الثالثة ركزت على أصابع شيشانية ربما تكون متورطة في الحادث، واللافت ان عائلة الزعيم الانفصالي الشيشاني الراحل اصلان مسخادوف وصفت ليتفينينكو اخيراً بأنه صديق للشيشانيين ورشحته لنيل وسام"اتشكيريا"وهي التسمية التي يطلقها الانفصاليون على الشيشان"تقديراً لخدماته الجليلة للقضية الشيشانية". ويعتقد أصحاب الفرضية الأخيرة بأن أحد الأجنحة الشيشانية قرر التخلص من ليتفينينكو بسبب معرفته بمعلومات مهمة حول سبل تمويل الحرب الشيشانية والشخصيات البارزة التي لعبت دوراً على هذا الصعيد. وجاء تطور آخر ليعزز هذه النظرية عندما كشفت المهاجرة الروسية يوليا سفيتلينسكايا المقيمة في بريطانيا والتي كانت على معرفة جيدة بليتفينينكو ان الأخير ابلغها قبل أسابيع نيته"الحصول على مبالغ من بعض حيتان المال الروس"باستخدام معلومات مهمة متوافرة بحوزته. وعلى رغم ان التركيز الأساس يدور حول الأشخاص او الجهات المتورطين بعملية الاغتيال، ظهرت فرضية أخرى أخيراً ورأت جهات عدة انها تبدو اقرب الى الواقع، وهي ان يكون الجاسوس الروسي السابق متورطاً بقضايا تهريب مواد مشعة الى جهات أجنبية بينها تنظيم"القاعدة"، ولا يستبعد خبراء روس ان يكون ليتفينينكو أصيب بجرعة مشعة اثناء تواجده في مكان ما في بريطانيا يجري فيه تحضير"قنبلة قذرة"باستخدام كميات ضئيلة من المواد المشعة، وانه كان مصدر نقل الآثار المشعة خلال تنقلاته الأخيرة في لندن وليس العكس كما ظنت أجهزة التحقيق في البداية. واللافت ان العميل الإيطالي سكاراميللا كان أشار في وقت سابق الى نشاط مارسه ليتفينينكو خلال فترة خدمته في الأجهزة الروسية لتهريب مواد مشعة الى اوروبا، لكن الترتيب الزمني للأحداث يدل الى ان الجاسوس الروسي لم يكن بمقدوره استخدام غطاء الأجهزة الخاصة الروسية لأنه طرد منها منذ عام 1998 فيما تدل معلومات سكاراميللا الى ان نشاط التهريب ابتدأ بعد عام 2001، ويرى خبراء روس ان هذه الفرضية اذا صحت ستكون الأخطر لأنها تدل الى توافر كميات معينة من المواد المشعة في أيدي تنظيمات ارهابية. سلاح فعال للإرهابيين ! أثار الإعلان عن ان وجود أثار من مادة بلونيوم 210 مخاوف كبرى عند الخبراء والمتخصصين لأن هذه المادة بحسب خبراء، سهلة التحضير والنقل ولا يمكن اكتشافها بسهولة اذا تم تهريبها عبر المراكز الحدودية. وهي شديدة التأثير وتنتقل بسرعة بالغة في الجو ما يفسر وجود آثار مشعة في كل الأماكن التي زارها ليتفينينكو يوم إصابته وحتى وجودها في بعض الطائرات التي ركبها أشخاص التقاهم الجاسوس الروسي في لندن. ويصف الخبراء الروس بلونيوم 210 بأنه"سم قوي جداً وأشد بعشرات المرات من سم السيانيد"وهو يتسبب بتدمير خلايا الجسم البشري بمجرد دخوله عبر الجلد او تناوله عبر المعدة، إذ يعمل على التغلغل في العظام والرئتين وتدميرها خلال فترة قصيرة. وعلى رغم خطورته الكبرى فهو يباع لدى شركات متخصصة منها، بحسب معطيات روسية، شركة"يونايتد نيوكلير"الأميركية التي تمتلك موقعاً على شبكة الانترنت تعرض هذه المادة عليه ضمن بضائعها، مع العلم ان نسبة الإشعاعات الموجودة في الكميات المعروضة للبيع لا تتجاوز 0.1 ميكروكيوري وهي نسبة غير خطرة، وعلى رغم ذلك طلبت وزارة العدل الأميركية من الشركة في نيسان ابريل من السنة الحالية وقف بيع كل أصناف المواد الخطرة التي يمكن استخدامها كسلاح او تدخل في صناعات المتفجرات. ولمادة البلونيوم 210 خصوصية تميزها عن غيرها من المواد المشعة فهي"لا تعيش طويلاً"بحسب الخبير بوريس جويكوف رئيس قسم المواد المشعة في معهد الأبحاث النووية الروسي، إذ لا يزيد"العمر الفعال"لهذه المادة عن 138 يوماً، تبدأ معها مرحلة تراجع نشاطها الإشعاعي تدريجاً لتتقلص خلال سنة واحدة ست مرات، وهذا يعني ان عملية نقل هذه المادة وتخزينها للاستفادة منها في الصناعات المدنية تجري بسرعة، ما يرجح ان الأطراف التي استخدمت المادة لقتل ليتفينينكو اما أدخلتها حديثاً الى بريطانيا وإما حصلت عليها من مصادر داخلية منذ فترة زمنية قصيرة. وبحسب الخبير نفسه فإن كمية 0.1 ميلوكيوري من هذه المادة كافية لقتل الإنسان فوراً، وهذا يعادل 0.2 ميكرو غرام. وبعيداً من التفاصيل العلمية الدقيقة فإن الخبراء يؤكدون ان سنتيمتراً مكعباً من مادة البلونيوم كاف لنشر إشعاعات قاتلة في مساحة تقدر بنحو أربعين كيلومتراً مكعباً، كما ان البلونيوم يختلف عن مواد نووية أخرى باستحالة التحكم بانتشار إشعاعاته ما يجعله غير صالح للاستخدامات العسكرية، فهو ينتشر عشوائياً وبسرعة بالغة، ما يعكس درجة خطورة المادة، كما يقول الخبير النووي مكسيم شينغاركين، الذي أوضح ان هذه الخصائص تجعله سلاحاً خطراً جداً اذا وصل الى أيدي إرهابيين، يمكن استخدامه مثلاً في محطات مترو الأنفاق او التجمعات السكنية الكبرى، وتزيد من خطورته صعوبة كشفه على الحواجز الأمنية في المطارات والمراكز الحدودية لأن مصدر الإشعاع يجب ان يكون على مسافة لا تزيد عن 2سنتيمتر من جهاز كشف المواد المشعة لتتمكن من التقاط إشعاعاته. واللافت ان عدداً من الخبراء الروس كانوا أشاروا بناء على هذه المواصفات الى استحالة ان يكون ليتفينينكو تعرض لعملية تسميم لأنها كان يمكن ان تسفر عن إصابة وموت عشرات الأشخاص على الأقل منهم كل زوار المطعم في تلك اللحظة وعمال البار وعمال النظافة وغاسلي الأطباق..الخ. والمثير ان هذه التفاصيل دفعت كثيرين الى ترجيح فرضية"القنبلة القذرة"ويدلل البعض على صحة هذه الفرضية بأن الأقرب الى الواقع ان يكون ليتفينينكو اما نقل المادة بنفسه او عرضت عليه خلال لقاءاته مع احد الأشخاص في ذلك اليوم. سجل حافل من الاغتيالات لمعارضي الكرملين مهما كانت هوية الجهة التي وقفت وراء اغتيال ليتفينينكو فإن الأكيد ان مقتله فتح الباب للحديث عن سجل حافل بعشرات، وربما المئات من عمليات القتل باستخدام مواد سامة نفذتها أجهزة الاستخبارات الروسية خلال العهد الشيوعي ضد المعارضين المنشقين الذين لاحقهم الموت في كل مكان لجأوا إليه. وتشير أوساط المعارضة الروسية الى ما يعرف باسم"قمرة الموت"التي تأسست عام 1921 وكانت تابعة لجهاز"كي جي بي"وهي عبارة عن مختبر بالغ السرية انكب الخبراء فيه على تطوير أسلحة دقيقة تفتك بأشخاص معينين من دون ان تترك آثاراً بعد العملية. وبحسب معلومات نشرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فإن هذا المختبر طور على مدار عشرات السنين سموماً مختلفة وغازات قاتلة وأدوات دقيقة، وامتازت السموم التي أنتجها"كي جي بي"بصعوبة كشفها لأن الخبراء عمدوا الى تطوير أنواع جديدة دائماً من السموم بخلط مكونات معروفة سابقاً في شكل يسفر عن إنتاج مادة جديدة مجهولة في كل العالم، واتهم الخبير البيولوجي الروسي الكسندر كوزمينون الذي عمل سابقاً في"قمرة الموت"في كتاب نشره بعد انهيار الدولة السوفياتية أجهزة الاستخبارات بأنها كانت تجرب ابتكاراتها على المعتقلين المحكومين بالإعدام قبل إدخالها الى قسم المهمات الخارجية. ولا يتوقف استخدام السموم للتخلص من الأعداء على الروس وحدهم إذ أجرت إسرائيل، بحسب الخبراء الروس، تجارب مماثلة لتطوير أسلحة دقيقة فتاكة استخدم أحد أنواعها للتخلص من القيادي في حركة"حماس"خالد مشعل في الأردن قبل أعوام، كما سعت الولاياتالمتحدة لدس سم مبتكر للرئيس الكوبي فيدل كاسترو لكن المحاولة باءت بالفشل، ويذكر خبراء روس عشرات المحاولات المماثلة التي جرت في دول مختلفة. والمثير ان حادث قتل ليتفينينكو باستخدام مادة سمية مخلوطة بمواد مشعة ليس الأول الذي تستخدم فيه مواد نووية في التاريخ، ففي عام 1955 تلقى المنشق السوفياتي نيكولاي خوخلوف جرعة سامة أضيفت الى قهوته وكان حينذاك لاجئاً في ألمانيا، ووصل الرجل خلال أسبوعين الى حافة الموت بعدما عجز الأطباء عن تحديد نوع السم المستخدم، لكن تجربة أجريت صدفة أدت الى كشف الخلطة. وبعيداً من المواد المشعة فان ضحايا السموم المبتكرة يقدرون بالعشرات او بالمئات، وأبرزهم أحد ابرز المقربين من الزعيم اليساري تروتسكي واسمه فولفغانغ ساليوس الذي قتل بمادة مجهولة عام 1957، والكاتب السوفياتي المنشق ليف ريرنت الذي مات بجلطة دماغية مفاجئة عام 1957 أيضاً ولم يتمكن الأطباء من تحديد أسبابها، حتى فر موظف في جهاز الپ"كي جي بي"بعد أربع سنوات على موته واعترف بأنه نثر مادة سامة في وجهه، وكذلك لقي الكاتب ستيبان بانديرا حتفه عام 1959، وقتل جهاز الاستخبارات التابع لپ"كي جي بي"في بلغاريا الصحافي المنشق غيورغي ماركوف بالطريقة نفسها، وظل موت الرجلين لغزاً محيراً حتى كشفه جنرال سابق في الاستخبارات هو اوليغ كالوغين الذي نشر كتابه"الجاسوس"وقال فيه ان مخبر الجهاز الامني طور مسدساً على شكل انبوبة دقيقة بأسطوانة زجاجية ينطلق منها بعد الضغط على الزناد كمية من سم السيانيد، وأضاف انه جرب السلاح على كلب اولاً ثم قتل به الرجلان واحداً بعد الآخر. ويؤكد كثيرون ان لائحة ضحايا أجهزة الاستخبارات الذين لقوا مصرعهم باستخدام سموم مجهولة التركيب طويلة ولا يمكن حصرها كما ان كثيراً منها ما زالت مطوية في أدراج الأرشيف او ماتت تفاصيلها بموت الأشخاص الذين وقفوا وراءها. اما في روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فإن عمليات اغتيال شخصيات باستخدام سموم وأدوات مبتكرة تواصلت بقوة، واعترفت الأجهزة الخاصة الروسية بقتل القائد اليمني العربي"خطاب"الذي نشط لسنوات في الشيشان برسالة مسمومة أرسلت إليه، وتقول الروايات التي يتناقلها البعض في معسكرات الانفصاليين ان الرجل أصيب بسكتة قلبية فور فتح المظروف وتنشق المادة التي كانت في داخله. وتتهم أوساط أوكرانية الأجهزة الخاصة الروسية بمحاولة قتل رئيس الوزراء السابق فيكتور يوتشينكو الذي نجا من موت محقق لكن أصيب بتشوهات تبدو في مظهرها وكأنها حروق جلدية كاملة او تآكل كامل لبشرته، وكشف الأطباء على مدار أسابيع خضع فيها يوتشينكو للعلاج عن وجود مادة الديوكسين السامة القوية التأثير، لكن الخبراء استبعدوا ان تكون هذه المادة وحدها تركت ذلك الأثر، ويرجح الخبير نيكولاي كوربان ان تكون تمت اضافة مواد غامضة الى السم المعروف منحته خصائص إضافية وهو يقول ان صانع هذه المادة"صنع عملياً قنبلة بيولوجية فريدة". وفي لائحة أعداء الكرملين أسماء كثيرة يقولون ان الأجهزة الخاصة قتلت أصحابها بوسائل مختلفة بينها المعارض الروسي يوري شيكوشيخين عام 2003 والصحافية نانا ليجافا عام 2004 ورومان تسيبوف في العام نفسه اضافة الى الصحافية انا بوليتكوفسكايا التي قتلت قبل شهرين بالرصاص لكنها كانت تعرضت لمحاولة تسميم اثناء توجهها بالطائرة الى مدينة بيسلان خلال مأساة احتجاز الأطفال في إحدى مدارس المدينة قبل سنتين.