"إن الكلمات على ورقة تجعل الكون متناسقاً"، بهذه الجملة الموحية يبدأ ألبيرتو مانغويل كتابه "في غابة المرآة" الصادر أخيراً عن دار كنعان دمشق، 2006 ترجمة سلمان حرفوش، مضمناً إياه مجموعة مقالات تتذوق ثمار ذاكرة مثقلة بالقراءة. وإذا كانت"أليس في بلاد العجائب"حكاية البحث عن حقيقة صافية، كما يقول فيصل دراج في مقدمته للكتاب، فإن مانغويل الذي يقتبس عبارات كثيرة من هذه الحكاية في مستهل مقالاته، يبحث بدوره عن تلك الحقيقة، ولكن ليس في بلاد العجائب، بل في سطور الكتب وبين حروف الكلمات. في هذا الكتاب نكتشف عالماً ملوناً، مشيداً بخيال الروائي والشاعر والمفكر. نعثر على خلاصات نقدية ووجدانية لقارئ حصيف وشغوف ارتقى إلى مرتبة كاتب. مثل هذا القارئ الموصوف في مقدوره أن يعكس صورة العالم عبر مرآة الذات الحكيمة الوقورة، المفعمة بتجارب إنسانية لافتة. ومثلما أن الكثير من الكتاب أدهشوا ذات يوم مانغويل، فإنه الآن يضطلع بذاك الدور منقباً في دفاتر الحياة، وأرشيف العمر بحثاً عن جملة هنا وعبارة هناك كي يكمل صورة العالم الناقصة التي يسعى الفنانون أبداً الى كمالها المؤجل. إنه يبرهن على أن الكلمات، على رغم هشاشتها، تتمتع بسطوة غير مرئية تتوغل في أعماق النفس، تشذبها وتجعلها نقية وفاعلة. يعتقد مانغويل بأن"الكتاب يجعلنا أفضل وأوفر حكمة". بهذا الاعتقاد يدعو الكاتب القارئ إلى رحلة معرفية في عوالم كتب ذات"ورق سميك وصقيل يفوح منه أريج غامض، أريج حطب محروق". كان ذلك الأريج يفوح من كتاب"أليس في بلاد العجائب"الذي أذن للطفل الصغير بالدخول إلى متاهة الكلمات الدافئة، إذ تعذر عليه الشفاء منذ ذاك من إدمان القراءة التي قادته إلى ضفاف خيالية موازية للواقع. وجد في رحلته من يسحق سحقاً مثل بورخيس ووجد آخرين أكثر دفئاً مثل كورتاثار، وكذلك وجد من هو مسل مثل تشسترتون أو ستيفنسون، ووجد عدداً قليلاً يكتشفون أبعد مما كان يرجو مثل القديس أوغسطين. يطرح مانغويل سؤالاً: الكلمات التي يدونها الكاتب شعراً أو رواية أو دراسة أو تاريخاً أو نقداً... هل يمكن تصنيفها؟ يجيب: الكتب تأبى أن تظل عالقة حيث هي على رف واحد: وهذه رحلات غليفر تقفز من رف تاريخ إلى رف نقد اجتماعي، والى رف أدب أطفال، علماً أنها لن تكون وفية لأي من تلك التصنيفات. وهذا والت وايتمان يقول:"أنا رحب فسيح، وأضم جحافل غفيرة"! ويتحدث الكاتب عن بورخيس العاشق الذي عرفه في مكتبة"بيغماليون"في بوينس آيرس. كان بورخيس يطلب بصوت متردد مؤلفات من الأدب الانغلو - ساكسوني،"فكان يقرّب الكتب من وجهه حتى ليكاد يلامسها كما لو كان أنفه يستطيع أن يستنشق الكلمات التي لم يعد يراها". ويسرد مانغويل قصة عشق بورخيس للكاتبة إيستيلا كانتو، وفشله في زواج بسيط من دون تعقيدات حتى رحيله في العام 1986 في جنيف. أما موت تشي غيفارا فيشكل محطة مفصلية في حياة مانغويل. فهذا الثائر الذي ولد في مدينة روزاريو في الأرجنتين في العام 1928 ناضل في كوبا مع فيديل كاسترو، وراح ليكمل النضال في بوليفيا، فاعتقل وقتل في العام 1967. كان نبأ موته يبدو مهولاً، علماً أنه شبه منتظر. يقول مانغويل:"كان تشي، في أعين أبناء جيلي، تجسيداً للفرد الاجتماعي البطولي، الذي كان معظمنا يشعر بأنه غير قادر على الارتفاع إلى مرتبته". ويفرد مانغويل لخوليو كورتاثار المولود في بروكسل لأبوين أرجنتينيين سنة 1914 مقالاً يستهله بمقولة لبابلو نيرودا:"كل من لا يقرأ كورتاثار مدان. فعدم قراءته مرض خطير وخفي، يمكن أن تيكون له، مع مرور الوقت، نتائج وخيمة". عندما ذهب مانغويل لرؤيته في باريس في العام 1968 وجد في استقباله"عملاقاً بوجه طفل رضيع، شديد الحفاوة بالضيف ومتحلياً بنكتة لاذعة". كورتاثار الذي يمدحه الكاتب كثيراً هو صاحب رواية"لعبة الحجلة"وماريو فارغاس يوسا قال:"إن كتاب أميركا اللاتينية تعلموا منه ان الأدب هو طريقة ملهمة للتسلية، وان في الإمكان اكتشاف أسرار العالم واللغة مع تمضية وقت ممتع...". يتساءل مانغويل: ما الذي سيبقى من كورتاثار؟ ويجيب:"مثل إحدى شخصياته الخيالية سيتعرض لعملية تحول. فالواقع الاعتيادي الذي كان قد التصق به كما لو انه جلد ثان رديف - المعارك السياسية، الحكايات العاطفية المعقدة، العالم الرجراج للبيزنس الأدبي مع ما فيه من شغف بالتجديد وإحياء الذكريات - سيصير إلى التلاشي شيئاً فشيئاً، وما سيبقى، هو القصاص الوقاد لحكايات عجيبة، لأقاصيص تنجح في المحافظة على توازن دقيق بين ما لا يقال وما يجب أن يقال، بين الفظائع اليومية التي نبدو قادرين عليها والأحداث الرائعة التي توهب لنا كل ليلة عبر متاهة المخابئ الخفية للذهن المفكر". وعلى رغم أن مانغويل يقتبس في أكثر من موقع عبارات لماريو فارغاس يوسا يدعم بها رأيه، فإنه ينتقد، في بحث مستقل، . فحين اصدر هذا الكاتب البيروفي روايته"المدينة والكلاب"1963، أحدث ضجة في بلاده وفي أميركا اللاتينية، لأن العمل ينطوي على"تنديد شرس بالنظام العسكري في البيرو، ومفعم بغضب مسعور من رياء النظام القائم". حتى ذلك التاريخ، ما كان يطلق عليه اسم رواية المعارضة في الآداب الأميركية - اللاتينية، كان القدوة له زولا تحديداً. لكن"يوسا لم يمش على طريق الدم والعاصفة مثل زولا ومريديه، بل فضّل اختيار فلوبير دليلاً له"، إذ رأى فيه"مصدر الرواية الحديثة، بالاستخدام الذي لجأ إليه، مجازفاً بالغياب عن الأنظار، حين جاء براوٍ"موضوعي"، برفضه كل وعظ وتبشير، يعطيك الانطباع بأنه يحكي قصة حقيقية". وحين توالت روايات يوسا"حديث في الكاتدرائية"وپ"البيت الأخضر"وغيرهما، أراد مانغويل معرفة حقيقة هذا الروائي اللامع، لكنه لم يدرك من هو يوسا إلا حين قرأ تصريحاته السياسية في صدد أميركا اللاتينية، وأثناء حملته الانتخابية في العام 1990 من أجل رئاسة البيرو. يعلق:"صدمني حينذاك التعارض الذي كنت ألحظه بين الآراء التي يبشر بها يوسا في رواياته، والآراء التي كان يدلي بها للصحافة كما لو كان، مثل مصور أعمى، عاجزاً عن رؤية الواقع البشري الذي كانت عدسته قد التقطته بقوة كبيرة. ووجد الكاتب في يوسا اثنين نقيضين. أما الأول فهو الروائي الكبير، الشديد الإحساس بالآخر، أما يوسا الثاني فهو عاجز عن التحاور، لأنه أعمى لا يرى الآخر. ويقدم مانغويل بحثاً حول الترجمة، إذ يقول:"ما من ترجمة بريئة في أي وقت من الأوقات"، وتحت عنوان"الشريك السري"يتحدث مانغويل عن"مستشاري النشر"المكلفين في دور النشر بقراءة الكتب المقترح طباعتها للتوصية بالتعديلات التي يحكمون بأنها لازمة، وهو يشبّه هؤلاء بقاطع الطريق اليوناني بروكست، الذي"كان يمدد زواره على سرير حديد فيمطهم أو يقطع ما يتجاوز السرير لديهم بحيث يجعلهم مطابقين تماماً لما يرى أنه أحسن". يرى مانغويل ان العالم أجمل بين دفتي كتاب، لذلك فهو يدير ظهره للعالم الواقعي ويعانق وهم الكلمات التي تشف عن ظلال الحقيقة الإنسانية.