بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة وإعلانها حل الميلشيات المسلحة, يصبح البحث ملحاً في التحديات التي تواجه هذه الحكومة, ولكن لابد من الاعتراف بأن العالم العربى قصّر تقصيرا لا مبرر له في حق العراق. بدأ التقصير بإغماض عينيه كلتيهما عن بدايات مغامرات صدام حسين في نهاية السبعينات وحربه ضد إيران الإسلامية, مادام يعمل في إطار الاستراتيجية الأميركية, فأصبح الارتباط واضحاً بين سكوت العالم العربى بل ومساعدته له أو الإشادة بإنجازاته العظيمة حتى وهو يستنزف شعبه, وبين الرضا الأميركى عن ذلك, حتى غزا الكويت وهدد الخليج, وذلك كله أيضا في إطار السيناريو الأميركى. فقد تصدى لمصر عندما عقدت إتفاقية السلام مع إسرائيل لصالح الولاياتالمتحدة وإسرائيل وقاد العالم العربى كله خلفه, وما كان له أن ينجح لولا أن ذلك كان بموافقة وتشجيع واشنطن. فلما أعيت واشنطن الحيل أمام تشدد طهران في أزمة الرهائن إستدعى صدام حسين, وتم تضخيم مخاطر الثورة الإسلامية في إيران حتى يصطف الجميع خلف إمامهم صدام حسين. ثم كانت معاناة الشعب العراقى من الحرب ضد إيران ومن بطش النظام، ثم من غزو الكويت وإبادة شطر من القوات والمنشآت العراقية، وما تبع ذلك من حملة دولية للعقوبات والإذلال وإفناء للشعب العراقى الذي هجر ربع أهله هرباً من البطش والاستبداد, وإنتهى الأمر بغزو العراق وإذلاله وإحتلاله والعبث بتراثه وكرامة أبنائه وتصفية حساباته مع مستودع الحضارات القديمة. واختلط الأمر على الحكومات العربية إزاء تطورات مأساة العراق فعجزوا جميعاً عن التمييز بين عدو مشترك للشعب العراقي وضد الحكومات وهو النظام المستبد. ولاشك عندى في أن هذه التطورات كانت مقصودة للتحقق ضمن أمور أخرى النتيجة المرجوة وهي زرع الشك والجفاء بين الشعب العراقي والعالم العربي, ثم كانت مشاهد غزو بغداد والاحتفال بسقوط بغداد يوم سقط النظام، وهذا التماثل يبن سقوط النظام وسقوط عاصمة الخلافة الإسلامية. وأعلنت الولاياتالمتحدة أنها جاءت إلى العراق لتعيد صوغ مجتمعه ويساعدها على ذلك كل هذه التطورات بحيث تصبح العروبة والاسلام مصطلحات تستدعي إلى الذاكرة العراقية والخليجية رموز الإعلام والخطاب السابق الذي أسرف في إستخدام العروبة والإسلام لتسويغ جرائمه, فباسم الإسلام بدأت الحرب ضد إيران التي اتهمها بالوثنية, وباسم العروبة وتحرير فلسطين غزا الكويت, وباسم الحرية غزت واشنطنالعراق. ويبدو أن واشنطن مصرة بكل الطرق على تنفيذ مخططها في العراق, ومن هذه الطرق إرهاب العالم العربي وإجباره على السكوت وعرقلة رغبته في نجدة الشعب العراقي الذي يعاني كل شئ: الاحتلال، الفوضى، الفقر، الإذلال، كما انه مهدد بالتمزق والطائفية. أدخلت واشنطن في روع البعض ان القوات الأميركية تواجه الإرهاب الموجه إلى محاولاتها لتخليص الشعب العراقي من الاستبداد حتى صار إسقاط صدام حسين في حاجة إلى"الإصرار الشجاع"على محاربة الإرهاب, العدو الجديد"لحرية العراق"فقد أكد الرئيس بوش في كلمته يوم 2/6/2004 في حفل تخريج دفعة من الطيارين الأميركيين أنه مصر على تخليص العالم العربي من الإرهاب والدكتاتورية عبر الشرق الأوسط الأوسع. ونحن نعتقد أن المشكلة الكبرى التي تواجه العراق الآن هي إعادة بناء نظامه السياسى. وإذا فشلت الحكومة العراقية الجديدة ورئيس البلاد الجديد الذين تبدو الشواهد أنهم من الشخصيات العراقية التي يمكن البناء عليها، فسوف يكون ذلك مأساة جديدة. والتحدى الآن هو كيف يتقدم العالم العربي لمساعدة هذه الحكومة على تخطي التحديات. ذلك أن مرور العراق من عنق الزجاجة سيساعده على حل بقية مشاكله بخاصة مع تأكيدات رئيس العراق الجديد. أما التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة خلال سبعة أشهر فأخطرها المحافظة على التوزان الدقيق بين التزامها خلال الفترة الانتقالية بالعمل من أجل الشعب العراقي في وضع أسس النظام السياسي الجديد وتشكيل جيش وطني وشرطة عراقية مهمتها حفظ الأمن الجنائي والعام ضد مخاطر الأمن والفوضى ووضع أسس اقتصاد جديد وسياسة خارجية تحافظ على العراق العربي الإسلامي، وبديهي أن هذا التوازن يبدو نظريا لأسباب عديدة أهمها أن هناك انقساما بين توجهات أعضاء الحكومة العراقية بما يتفق مع مصالح الفئات والطوائف التي تتشكل منها هذه الحكومة, وليس أمام الحكومة الجديدة إلا طريقان في نهاية المطاف فمن ناحية إذا أصرت هذه الحكومة على مواقف تخدم الشعب العراقي وتحوز ثقته وأنها الوجه العراقي الحقيقي وليست حصان طروادة يوظفها الاحتلال لمصلحته، وإيهام العالم بسلامة خط الاحتلال. ومن ناحية أخرى فإن إصرار الاحتلال على سياساته يضع الحكومة في موقف الإختيار، إما استيعاب هذه الحقيقة ومحاولة تطويعها مع المخاطرة بأنها ستكون عرضة لنيران المقاومة التي لن تفرق بين الاحتلال وبين أذنابه، وإما التخلي عن مهمتها بالإستقالة أو تجميد الأنشطة طوال هذه الفترة الإنتقالية. وقد لا تنتهى هذه الفترة لأن الترتيبات الكثيرة المتصورة خلالها تزدحم بها فضلاً عن أن واشنطن تتجه إلى توظيف هذه الحكومة للإيهام بأن هناك حكومة عراقية مسؤولة ولها الحق في طلب قوات متعددة الجنسيات: تريد واشنطن أيضاً توظيف هذه الحكومة وهذه القوات في التصدي للمقاومة العراقية وللقوى الأخرى التي تساندها والتي تصفها الحكومة الأميركية بأنها مرتزقة. فإذا كان هناك إجماع داخل الحكومة الموقتة على أن المقاومة إرهاب وأن الأجانب المؤيدين للمقاومة مرتزقة، فإن ترتيبات هذه المرحلة الانتقالية ستتعثر وسيصعب إقرار الدستور الموقت الذي يبدو إقراره واستمراره لشهور تمهيداً لدستور دائم من علامات عدم الجدية في التعامل مع الموقف. ومن الواضح أن استمرار الاحتلال وعدم وضوح النية في الانسحاب وتجاهل المقاومة تماماً كقوة عسكرية وسياسية سيجعل مهمة أى حكومة عراقية مستحيلة، لأنها تنشأ بمعرفة سلطات الاحتلال وتولد وهي حاملة لشبهة العمالة بحكم ظروف نشأتها والشك في وطنيتها. ومن دون أن نستبق المستقبل، فإنه يبدو لنا أن محاولة إشراك الحكومة العراقية في أستصدار قرار مجلس الأمن بشأن نقل السلطة والقوات المتعددة الجنسيات هي محاولة سلبية لتوريط هذه الحكومة لإيهام العالم بالتعامل معها على أساس أن مواقفها هي مواقف العراق قفزا فوق اتجاهات الشعب العراقي وقواه المطالبة بالإنسحاب. والملاحظ أنه إذا كان الأكراد يطمحون في استمرار الاحتلال الأمر الذي عبر عنه وزير الخارجية العراقي"الكردي"وهو أمر تريده أوساط عربية أخرى غير عراقية، فإن الشيعة لايزالون يأملون في أن يؤول الحكم إليهم بحكم عددهم وبحكم مقدار معاناتهم، إذ يعتقدون أن المشاركة في الحكم يجب أن تتحدد على أساس قدر المعاناة من النظام السابق، وفي هذا يتسابق الأكراد والشيعة وكثير من أبناء العراق الآخرون. في ظل هذه الصورة التي ترسم ملامح مستقبل العراق, فإن الدور العربى يبدو مهماً. ويبدأ هذا الدور بإدراك مخاطر هذه المرحلة ومساندة الاتجاهات القومية والتخلي تماما عن الاتجاهات الطائفية والعشائرية التي تغذيها المرحلة الحالية ودعم مؤسسات المجتمع الإعلامية والثقافية والتعليمية التي تكرس قيم العراق الإسلامية والعربية، والدفاع ضد كل محاولات استغلال مأساة العراقيين. ولكن يجب أن يحذر العالم العربي من أن يستغل من جانب الاحتلال للمحاربة في صفه تحت شعار القوات المتعددة الجنسيات، ويجب أن يلتزم الإعلام العربي خطاً واضحاً. ذلك أن الفوضى وانعدام الأمن ليس سببها المقاومة، وإنما سببها الاحتلال وسياسته، ولتتجه الديبلوماسية العربية بوضوح إلى إحلال الأممالمتحدة والجامعة العربية محل سلطات الاحتلال والتنبه إلى عدم استغلالها لمصلحة أهداف الاحتلال، ولكن ذلك يتطلب موقفا أميركيا بشأن الانسحاب وحقيقة خططها في العراق. ولا يخفى أن التصريحات الأميركية على كل المستويات تؤكد أن الاحتلال مستمر حتى يتم إكمال حرية العراق، لأن الحملة العسكرية باسم حرية العراق أعاق استكمالها"الارهاب العراقي"أو ما يسميه بعض أعضاء الحكومة العراقية الجديدة"أعداء العراق". والخلاصة، أن مصير الحكومة الجديدة في العراق يتحدد في ضوء مواقفها ومدى اصرار واشنطن على أن تكون أداة في مخططها، ومن ثم فمن المتوقع أن تستمر المقاومة وأن تنال من هذه الحكومة رغم أن بعض أعضائها شخصيات وطنية تجد حرجاً من العمل في ظل الاحتلال. إن إصرار الحكومة على تنفيذ توجهات سلطات الاحتلال بينما تؤكد الحكومة في الوقت نفسه أنها تمثل العراق وتتحدث باسمه، وتناولها ملفات حساسة في هذه المرحلة، وهو الهدف الأميركى المعلن، سيواجه بقوى المقاومة. وأدركت الولاياتالمتحدة أن العراق في حاجة إلى خدمات عاجلة حتى تجعل الاحتلال مقبولا وتخفف الضغط عن الحكومة العراقية. وتعتمد الولاياتالمتحدة على قراءة معينة للأحداث، إذ تعتقد أن إعادة عمل المرافق وتنظيم الأمن الداخلى والأسواق والبحث في توظيف من كانوا يشغلون وظائف سابقة، وإنفاق بعض عوائد البترول العراقى على الشعب وأظهار بعض الجدية في تحسين الأحوال المعيشية، كل ذلك كفيل - في تقدير الولاياتالمتحدة - بأن ينصرف الشعب عن المقاومة، على أساس أن استمرار المقاومة رغم كل ذلك يثير ضغينة المستفيدين من الوضع الجديد ويخلق رأياً عاماً عراقيا ضد المقاومة. وتظن واشنطن في مثل هذه الظروف أنه يمكن تنفيذ برامج تغير توجهات ومصالح المجتمع العراقي والدولة العراقية، على افتراض أن المقاومة يغذيها تردي الأحوال في العراق, وأنها لا تصدر عن رغبة في التحرر، وإنما عن رغبة في أحوال معيشية معقولة. وصورت بعض التقارير للولايات المتحدة، بما ينسجم مع الفكر الرسمى الأمريكى المعاصر، الأمر على أنه صراع بين دعاة الحرية، وبين دعاة الارتداد إلى عصور الظلام، وأن فشل دعاة الحرية في تهيئة الظروف المعيشية المناسبة يؤدي إلى استغلال هذه الظروف لمصالحة أعداء الحرية. وهو التحليل نفسه الذي ساد في القضية الفلسطينية. * كاتب مصري.