ينقسم النسيج الاجتماعي العراقي حول شخص الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. النظرة إلى شخص الرجل لا تنحصر بتقويمه الأخلاقي والسياسي فقط، بل تدخل في صلب هويته وتاريخه في التأثير في تاريخ البلاد على مدى أكثر من ثلاثة عقود. لم تستطع الحملة الأميركية العسكرية ضد العراق إختصار صدام حسين إلى ديكتاتور مجرم، بل حوّلته حالة قضائية يجوز الفصل فيها من خلال الحجة والحجة المضادة. حوّل صدام حسين القاعة المفترض أن تحاكمه إلى منبر سياسي أعاد من عليه اجترار آرائه ك"رئيس للعراق" في شأن بلاده وشأن حاكميها الجدد وشأن محاكمته. لا يعترف الرجل حتى الآن بما عصف ببلاده. فالأميركيون غاصبون محتلون ورئيسهم "سافل ومجرم"، وحكام العراق الجدد "عملاء" لا شرعية لمحكمتهم ولا طائل من توقيع وثائقهم القانونية، والكويت عراقية لم يغزها بل تدخل فيها صوناً لشرف العراقيات. الرئيس المخلوع يقف في لحظة اللاتوازن بين حقيقة أنه الرئيس الدستوري والشرعي للعراق والذي تمت إطاحته بوسائل قهرية غير دستورية، وحقيقة أن عراق صدام انتهى إلى غير رجعة وأن نتائج الحرب والاحتلال أضحت واقعاً لا يمكن إغفاله. وفي وجوده اللامتوازن في لحظة عراقية حرجة يكتئب الرجل ويتحدى متأرجحاً كتأرجح الحال العراقية. يصف صدام حسين المحاكمة بأنها "مسرحية". وإذا أراد الرئيس المخلوع السخرية من شرعية هذه المحكمة، فإن العالم سيشهد من دون شك عرضاً مشوقاً قد يشغل "مجتمع الفرجة" الدولي على مدى زمن لم تتحدد معالمه. صدام حسين رئيس عراقي حكم بلاده 36 عاماً، وعلى مدار تلك السنين عايش وتعايش مع العالم بزعمائه. وما ارتكب نظامه من زلات وأخطاء وكوارث لا يمكن أن يكون بعيداً من حركة السياسة والحكم في العالم. أي أن العرض إذا ما ترك من دون رقيب سينزع نحو فتح الملفات وإعادة نبش حقائق وتحري البحث عن أسرار ما زال صانعوها أحياء يرزقون. والعالم الذي زف للعراقيين سقوط ديكتاتورهم باسم الخير المطلق، سيفاجأ بأن المحاكمة بمحركاتها الموضوعية قد تحول الرجل بالمقارنة والتجربة إلى شر نسبي. والمحكمة التي ستتولى إدارة "العرض" ستكون شاهداً أول على نسبية معسكر الخير. أهل الخير أتوا البلاد فاتحين مبشرين بعهد الحريات والديمقراطية والقانون، وما نتائج الاحتلال من مجلس حكم وحكومة ومحكمة إلا انتهاكاً لقانون البلاد وقفزاً فوق القانون الدولي واستنساباً للظرف واستبعاداً للاستحقاقات. ومحاكمة الرئيس المخلوع قد لا تعدو كونها "فصلاً" من مسرحية قد تستند الى المخيلة الإبداعية لأهل القوة المحتلين أكثر منها استناداً الى وقائع شرعية ومسوغات ودفوع قانونية. المحكمة سياسية قد تشهد تسرعاً وارتجالاً خدمة لفريق الإخراج والإنتاج على أن يكون العالم بعامة والعراقيون بخاصة جمهوراً جيداً يسهل إمتاعه. وفي الامتثال إلى شروط "النسبية"، يحرم العراقيون من محاكمة "طاهرة" ذات صدقية عالية لعهد من الاستبداد أطاح خير العراق من مادة وبشر. وقد تلوح أولى علامات الشك وقلة اليقين في ما أشارت إليه الصحف من شراكة شركة العراق القانونية تجمع ما بين رئيس المحكمة سالم الجلبي إبن أخت زعيم "المؤتمر الوطني العراقي" أحمد الجلبي مع الإسرائيلي مارك زيل أحد أعضاء حركة "غوش أمونين" الاستيطانية الإسرائيلية المتطرفة. ولأن المحاكمة فعل احتلال مقيت، فإن حاليات العراق تهيمن على القيمة المطلقة لمحاكمة الديكتاتور فتدخل الأمر إلى سياق الراهن لتتحول المحكمة أيضاً إلى فعل مقاومة وقمع وإرهاب وانعدام أمن ....الخ، شأن يوميات العراقيين. وفي ذلك خطورة أن تصبح محاكمة الرئيس المخلوع عامل انقسام بدل أن تكون عامل إجماع وأن تُدرج سيرورة المحكمة ومصيرها من ضمن مناورات اقتسام السلطة في عراق الغد. يواجه الرئيس المخلوع تهمة ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" في سبع قضايا هي: استخدام الغازات السامة ضد الاكراد، وقمع التمرد الشيعي، والمقابر الجماعية، والحرب ضد إيران، وغزو الكويت، وقتل رجال دين شيعة وقتل عشيرة بارزاني. ولا شك في أن إجماعاً أخلاقياً يحتم محاكمة طاغية على جرائمه في المدى المطلق، بيد أن رياحاً نسبوية تنفخ بلؤم وتطرح أسئلة مطلقة. من زوّد ديكتاتور العراق بالسموم والغازات التي أهلكت آلاف الأكراد؟ ولماذا لم تأخذ الإدارة الأميركية التي لعب وزير دفاعها الحالي دونالد رامسفيلد دور الرسول المحاور على بغداد وطاغيتها خطيئته الكردية؟ ولماذا يكون الأمر طبيعياً وضرورياً حين نالت السموم والغازات من الجنود الإيرانيين إبان الحرب بين البلدين. وإذا دنت المحكمة من ملف التمرد في الجنوب، فأسئلة كثيرة ما زالت عالقة حول الحكمة من توقف الجيوش الأميركية عند الحدود العراقية إثر طرد جيش صدام من الكويت، والعبرة من امتناع القوات الأميركية بقواها البرية والجوية من التدخل لحماية ذلك التمرد من قمع دموي شرس مارسه جيش السلطة المركزية في بغداد. وهل من سبيل لشراكة أميركية في تحمل مسؤولية ما ارتكبه صدام من مقابر جماعية أم أن الأمر ملف يغلق في واشنطن ويجوز فتحه في بغداد. والغرابة أن تختلط ملفات الداخل بملفات الخارج. فالحرب التي شنت ضد إيران كانت حرباً باركها العالم عرباً وعجماً، وعمل المباركون على تغذية الهمّة العراقية بالسلاح والمال والبشر دفاعاً عن الجبهة الشرقية بالنسبة الى العرب، ونيلاً من "ثورة إسلامية" تعمل على تصدير قيمها وأخطارها على العالم. فهل يمكن قانونياً محاكمة صدام كلاعب وحيد في حرب كثر اللاعبون في ميدانها؟ وقد ينسحب الأمر على غزو الكويت الذي انتهى إلى هزيمة وإلى محاكمة دولية لصدام ونظامه أرست دستور العقوبات الذي لم ينته إلا بانتهاء سيد بغداد. فهل يمكن في ملف المحاكمة الخلط بين السياسي والقانوني والمزج ما بين حقوق الانسان والجرائم ضد الانسانية من جهة وسلوك النظام السياسي ضمن السياق الدولي "المقبول" في حالي حرب ايران وحرب الكويت؟ وفي الامكان تسجيل خصوصية لمحاكمة صدام حسين. الأميركيون يصرون على محاكمة نزلاء غوانتانامو لدى محاكم أميركية، ولم تأبه واشنطن لنداءات تدعو إلى تسليم المعتقلين إلى بلادهم ليحاكموا فيها. كما أن محكمة دولية تتولى محاكمة الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش بتهمة ارتكاب جرائم حرب. أما في حال صدام فقد تخلصت واشنطن من محاكمته لدى محاكمها، مع العلم أن شبهة تهمة بالنسبة الى الأميركيين ارتباط نظامه ب"القاعدة" توفر الذريعة القانونية الضرورية لمحاكمته في الولاياتالمتحدة، لكنها ارتأت احالة الأمر إلى العراقيين الذين اعادوا العمل بعقوبة الإعدام إيذاناً بأحكام قصوى ستطاول الرئيس المخلوع وأركان نظامه. لن يظهر صدام حسين أمام المحكمة قبل عام. خلال هذا العام استحقاقات كثيرة سترى النور، تبدلات في السياسة الدولية ستطرأ على العالم واحتمالاً على ادارة الولاياتالمتحدة نفسها، وخلال هذا العام سيتجادل القانونيون حول تفاصيل تقنية تؤيد او تدحض حجة هذا الطرف او ذاك. وخلال هذا العام سيتكرر انقسام العراقيين في شأن رئيسهم المخلوع ومحاكمته. ستصمت تكريت وستصرخ النجف، وسيستمر المقاومون بأطيافهم في إصدار الإشارات وزرع العلامات التي ستمعن في ازهاق المطلق وإطلاق النسبي. * كاتب لبناني.