من المُدهش حقاً أن يعود إلينا إنسان من خضم الحروب وأهوالها وهو لا يزال قادراً على حب الحياة، ولا تزال عيناه قادرتين على رؤية الأشياء الجميلة. إنه المخرج والمصور الموهوب إبراهيم البطوط الذي قضى 18 عاماً مصوراً بين الحروب وخطوط النار، بين حقول الموت والمقابر الجماعية. ومع ذلك تمكن من تحقيق فيلم -"إيثاكي"روائي، ديجيتال، ألوان، مدته 70 دقيقة، وبتكلفة قدرها 37 ألف جنيه فقط - ينطق بالجمال في كل كادر منه، فيلم يُؤكد أن في الحياة ما يستحق المعاناة. تُرى كيف حافظ هذا المبدع الشاب على بقاء فكره سامياً؟ هل مست روحه وجسده عاطفة نبيلة مثلما قال الشاعر اليوناني"كفافي"؟ يعترف البطوط أن عقله أصبح"مملوءاً بصور الحرب وبالذكريات المؤلمة"، لكنه يرفض أن يتخلى عن الأمل، فإذا فقده كيف يستمر؟ يُنفره المستسلمون الذي يُجيدون تجسيد أدوار الضحايا. يرى أن الصعاب إحدى سمات الحياة، وأن على الإنسان مقاومتها، فإذا تركها تطغى عليه ولا يعود ضمن الأحياء، بل سيكون نصف ميت. هذه النظرة تنعكس بوضوح في كل من فيلمه التسجيلي"26 ثانية في باكستان"2006، وفيلمه"إيثاكي"الذي أهداه إلى"من ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا"، إلى من"ذهبوا وعادوا مكسورين"، وإلى من"ذهبوا وعادوا أكثر قوة"، إلى"علي تانخي"الذي لم يعش ليرى فيلمه الأول وإلى أصدقائه الذين ساعدوه ليرى هو فيلمه الروائي الأول متوسط الطول"إيثاكي". كاميرا العالم يمتلك إبراهيم البطوط خلف شخصيته كهفاً عميقاً. هو مخرج واعٍ يرى العالم بعيون الكاميرا، مُرهف الحس، هادئ، يميل إلى الصمت، قليل الكلمات لكن عندما يتحدث تكشف كلماته المختارة بدقة عن عقل متأمل، وروح صافية... خلف طفولته، وشبابه وسنوات نضجه، تختبئ رواية تستحق السرد. البطوط من مواليد بورسعيد. كان في الرابعة من عمره عندما وقعت حرب 1967، فظلت الحرب عالقة في ذهنه. درس في الجامعة الأميركية. حصل على بكالوريوس العلوم، فيزياء، 1985. كان متفوقاً في الإلكترونيات، فعمل مهندساً للصوت في شركة تصور الأخبار وتنتج الأفلام الوثائقية لعدد من الشركات الأجنبية. هناك تعلم التصوير والمونتاج والإخراج. منذ عام 1987 أصبح مصوراً تلفزيونياً تسجيلياً محترفاً. سافر إلى أوروبا. عمل مع عدد من القنوات التلفزيونية العالمية منها التلفزيون البريطاني، قناة"زد دي إف"الألمانية، وپ"آرت تي"الفرنسية،"تي بي إس"اليابانية. ذهب إلى البوسنة والهرسك وعاش فيها من 1992 إلى 1997. كان شاهداً على فظاعة الحرب في كل من رواندا والشيشان، الصومال وجنوب السودان، سيرلانكا وأفغانستان والبوسنة، فلسطين، لبنان، العراق وإيران... صنع عدداً من القصص الإخبارية والتسجيلية حول الخسائر البشرية والمادية والمعاناة الإنسانية جراء الحروب. حصل على عدد من الجوائز العالمية. من أعماله:"بغداد"2004،"المقابر الجماعية في العراق"2003،"إدمان المخدرات في الكويت"2002،"الحج إلى مكة"2001،"ثلاث نساء ألمانيات"2001،"نجيب محفوظ"1999،"بداية الحرب في كوسوفو"1998،"العبودية في السودان"،"الحرب الأفغانية ضد مزار شريف"1996. إصابة إبراهيم البطوط بطلق ناري على أيدي قوات البوليس المصري أثناء قيامه بالتصوير في عام 1988 وضعته وجهاً لوجه أمام قوة الصورة وخطورة ما تصنعه، وجعلته يستعيد من بئر الطفولة صور الحرب النابضة بالألم. تولدت لديه رغبة قوية في معرفة الأسباب التي تدفع الشعوب إلى التورط في الحروب. تلك الرغبة شكلت نقطة جوهرية في قطار حياته إذ قادته إلى مساره المهني، فقام بتغطية 12 حرباً، كانت حرب البوسنة أكثرها خطورة. هناك أُصيب للمرة الثانية. منذ البداية آمن البطوط بأن الصورة ستلعب دوراً في تغيير العالم، وفي إنهاء الحروب. ظل يُرسل إلى العالم صور القتلى والجرحى والدمار الذي صنعته الحروب منذ عام 1992 حتى 1995 لكن لم يتحرك أحد، ففقد ذلك اليقين. أدرك أن الدائرة اكتملت، إنه يُخاطر بحياته من أجل لا شيء، فقرر العودة إلى الوطن. وصل المخرج الشاب إلى قناعة بأن المعاناة الإنسانية تتشابه في كل مكان، وأن"الكناس"الذي يظل طوال النهار ظهره محنياً لا يحصل إلا على 200 جنيه ويُعاني من مئات الأمراض، وحول عنقه تلتف مسؤولية أسرة يحاول السعي للإنفاق عليها، فيقف في الإشارات ينظر إلى الناس ربما منحوه اثنين من الجنيهات وربما امتنعوا. معاناة ذلك الرجل لا تقل عن معاناة تلك المرأة بطلة فيلم"جربافتسيا"التي تم اغتصابها في حرب البوسنة والهرسك. ربما يكون حنين إبراهيم إلى خوض تجربة السينما الروائية هو ما أسهم في تشكيل رؤيته بأن لغة الفيلم الوثائقي لم تعد تُؤثر في الجمهور، بأن عليه البحث لاكتشاف لغة اخرى تساعده على التواصل مع الناس ومشاركتهم أفكاره. أدرك أن صيغة الفيلم الروائي ستمنحه مساحة من الحرية أكبر، فقرر تنحية العمل التسجيلي جانباً - موقتاً - والاتجاه إلى الأسلوب الروائي. وكانت النتيجة فيلمه البديع"إيثاكي". إيثاكي يدور الفيلم حول مجموعة من"الإيثاكات":"إيثاكي"، الرحلة الطويلة للبطل الأسطوري"أوليسيوس"التي كان يجب أن تنتهي في أيام لكنها دامت سنين طويلة قبل أن يعود إلى وطنه وزوجته بعد انتهاء حرب طروادة. وپ"إيثاكي"قصيدة الشاعر اليوناني كونستانتين كافافي الذي سكن في مدينة الإسكندرية وقال فيها: "عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكي تمنّ أن يكون الطريق طويلاً... حافلاً بالمغامرات عامراً بالمعرفة... لا تخشَ الليستريجونات والسيكولوبات، ولا بوزايدون رمز البحر الهائج، لن تجد أبداً أياً من هؤلاء في طريقك إن بقي فكرك سامياً، إن مست عاطفة نبيلة روحك وجسدك". أماپ"إيثاكي"الثالثة فهي رحلة المخرج إبراهيم البطوط وتجربته الذاتية التي استوحى منها فكرة فيلمه. ثم مجموعة أخرى من"الإيثاكات"لشخصيات حقيقية تعرف إليها المؤلف وأخرى ربطت بينه وبينها صداقة. يدعونا"إيثاكي"الفيلم ألا نكتفي برؤية الأشياء من حولنا بل أن نحس بها، أن نكتشف طاقة الحياة والحب الموجودة في داخلنا بإزالة التراب من فوقها. فالطريق إلى"إيثاكي"لا بد من أن ينبع من داخلنا حتى نستمر. والأهم من ذلك أن نستمتع بالرحلة الممتدة، فالجمال والمتعة الحقيقية ليسا في الهدف بل في السبيل الى ذلك الهدف. لم يعتمد الفيلم في نسيجه على البناء التقليدي للحبكة، لم يكن هناك سيناريو مكتوب. فقط شخصيات لها ملامح عامة في ذهن مبدع العمل وحده، وحوار كتبته"مريم ناعوم"بعد نقاش مع المؤلف. تجربة تقترب من روح الارتجال، فيها قدر كبير من المخاطرة إن لم يكن ذهن مخرجها حاضراً بصفة مستمرة. في أولى تجاربه الروائية كشف البطوط عن قدرته الإبداعية في اختيار المعادل البصري والجمالي لموضوعه الشعري، وفي اعتماده كثيراً على اللقطات الطويلة الملائمة لطبيعة"إيثاكي"، في اختيار وتوجيه الممثلين حتى لو كانوا من الهواة، في تعاونه مع مؤلف موسيقي مبدع هو أمير خلف، في قدرته على القفز فوق الصعاب وتحقيق فيلم ممتع بعيداً من السينما السائدة ومن دون موازنة تُذكر. 26 ثانية في باكستان يحكي الفيلم التسجيلي"26 ثانية في باكستان" - 18 دقيقة - عن اللحظات القصيرة التي تقلب حياتنا رأساً على عقب، عن زلزال ضرب باكستان كانت مدته 26 ثانية... 26 ثانية فقط قُتل خلالها مئة ألف وجُرح أكثر منهم، 26 ثانية تركت ثلاثة ملايين مشرد، على رغم كل ذلك لم تنل هذه الپ26 ثانية من روح الشعب الباكستاني. الفيلم مملوء بالأنين وبالشجن، لكنه أيضاً مفعم بالأمل، بروح التحدي والصمود. في لقطات سريعة تنتقل الكاميرا بين فتاة مصابة تبكي في لوعة فراق ذويها، وطيارة تحلق في السماء تحمل المصابين، بين"عربة كارو"تحمل الجثث المتعفنة، وإناس يضعون الكمامات لئلا تصلهم رائحة الموت في كل مكان، بين رجال يُكسرون أحجار الجدران المنهارة، وآخرين يبحثون تحت الأنقاض عن أموات وربما عن أحياء. يتكون نسيج الفيلم من سلسلة لقاءات مكثفة مع عدد من نساء باكستان. اعتمد المخرج على فكرة أن يكون الفيلم بمثابة جلسة علاج نفسي لهؤلاء النسوة. ترك لهن مساحة من البوح. ساعدته في ذلك أسماء بشير التي تعمل في الدعم النفسي والاجتماعي في الهلال الأحمر التركي. نعمة فتاة دُفنت هي وأسرتها تحت الأنقاض. كانت تشعر بالناس وهم يسيرون فوقها. أخرجت إصبعها وحركته من تحت الأنقاض فأدرك المارة وجود إنسان حي مدفون فاستخرجوها هي وعائلتها. تُوفي والداها وأُصيب أخوها. في البداية شعرت بالغضب الشديد وتساءلت كيف يفعل الله ذلك ويأخذ منها والديها؟ لكن بعد جلسات نفسية عدة أدركت نعمة نجاتها، وأنها ليست الوحيدة التي تمر بهذه المحنة القاسية. أكثر من أي وقت مضى شعرت بالرغبة في مساعدة الآخرين. ذكاء المخرج وإدراكه طبيعة النساء قاداه إلى تحطيم الحاجز النفسي بين هؤلاء النسوة وبين الكاميرا، وذلك من خلال توظيف وجود"أسماء". حكت لهن عن معاناتها وسألت عن آلامهن فانسابت الأحاديث صادقة متدفقة كالشلال. نساء وأطفال ورجال لم يجربوا من قبل الإقامة في الخيام، لكنها أصبحت مصيرهم المحتوم. سيزداد الوضع صعوبة مع قدوم الشتاء وبرده الوشيك وسقوط الأمطار. مات بعضهم في الزلزال وربما يموت الباقون من البرد القارس. سيكون الأمر غاية في الصعوبة وسيقع معظمهم فريسة للأمراض. على رغم كل ذلك استمروا في نصب الخيام ومواصلة الحياة وإقامة حفلات الزفاف. إنها إرادة الحياة تقهر قوة الموت. أجمل ما في الفيلم أنه يمنحنا فرصة الاقتراب من أعماق هؤلاء الضحايا. كان"إبراهيم"مخرج الفيلم ومصوره مثل القناص المحترف. قناص يُقيم علاقة عشق خاصة مع أدواته، مع الكاميرا التي يحملها بين جناحيه، مع الطبيعة من حوله، قناص للمشاعر الحقيقية واللحظات الإنسانية التي تكشف سراديب النفس البشرية. اهتم بالإشارات الجسدية الكاشفة، بلمسة الأيدي المتضامنة، بنظرات العيون على اختلافها، خصوصاً عيني تلك الطفلة ذات السنوات المعدودة. عيناها الشاردتان تحدقان في عين الكاميرا، بينما أناملها تتحرك في رقة وشرود فوق يدي الأم. يا لها من لقطة بديعة. تُرى بم كانت تُفكر هذه الطفلة؟! هل كانت تفكر في الدور الذي يلعبه هذا الفيلم في تحريك ضمير الشعوب، وفي تغيير مصيرها هي وعائلتها؟! أم أنها تُدرك ببراءتها الفطرية أن الناس حينما يرونها سيقولون بحزن شديد:"إنه لشيء رهيب ومؤلم"، ثم يواصلون تناول العشاء!