يقول من يبتغي إنصاف مطرب ما:"دعكم من الاستماع إلى الاسطوانة، اذهبوا واحضروه في حفلة". وذلك يحتمل وجهين. فإما أن التسجيل ينتقص من حنجرة المغني، على اعتبار أن هناك"طزاجة"في الإحساس لا تستوي والتعليب، بما فيه الموسيقي. أو أن الأستوديو يهندس الصوت على غير حقيقته، الأقل قدراً. ومن ينصح بالاستماع إلى المغنية السورية الصاعدة لينا شماميان في حفلة حيّة، وعدم الركون إلى إيحاءات اسطوانتها الوحيدة، فهو يقصد الحالة الثانية غالباً. يظلم شماميان من يقول أن فوزها، مع مجموعة عازفين سوريين، بجائزة مونتي كارلو الموسيقية لهذا العام، كان له الدور الأساسي في الانتشار الكبير لأغانيها. إذ لقيت اهتماما لافتا من الجمهور. وبيعت أعداد كبيرة من اسطوانتها الوحيدة التي احتوت على مجموعة أغان تراثية تمت إعادة توزيعها للجاز، منها"يا محلا الفسحة"،"هالأسمر اللون"و"عالروزانا"... الخ. النجاح لم يكن لافتاً فقط، بل مفاجئاً لدرجة أن المحاكم تتولى الآن البت في حقوق الملكية الفكرية للاسطوانة، بعد خلافات متشعبة مع منتجها. وقد تكون هي القضية الأولى من نوعها، بعد إقرار قوانين حقوق الملكية الفكرية في سورية، إذ لم يكن مألوفاً أن تتعقب الشرطة عمليات اتجار غير مشروع في محال بيع الاسطوانات، كما حصل مع اسطوانة شماميان، بطلب من صديقها وشريكها في مشروعها الموسيقي، عازف الساكسفون الشاب باسل رجوب. لم تقف الجائزة وراء ذلك، وكل ما فعلته أنها وجهت أنظار الإعلام إلى هذه التجربة، ويؤكد ذلك رجوب نفسه:"سابقاً، كنت أتوجه إلى وسائل الإعلام المحلية طالبا منهم بعض الاهتمام بما نقدمه، ولم أكن ألاقي أي تجاوب. الآن باتوا هم من يتصلون ويريدون الحديث إلينا...". لكن، في المقابل، يبالغ من يعتبر أن صوت المغنية الشابة التي لا زالت تدرس الغناء الأوبرالي في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، حمل وصفة سحرية للنجاح. المعادلة التي حققت ذلك كانت بسيطة، وشارك في تجسيدها أكثر من طرف. أدت شماميان الأغاني بإحساس مرهف، معتمدة على صوت دافئ، بطبقات متوسطة إلى منخفضة، مستخدمة إمكاناته من دون ادعاء. والأهم أن إعادة التوزيع للجاز، و"لاتين"جاز، نجحت في إعطاء بريق مختلف للتراث، وأقنعت الجمهور، الشاب في معظمه، بإعادة اقتناء أغان كان ملّ سماعها، وحفظها عن ظهر قلب. ذلك لم يكن ليحصل لولا الأداء البارع لمجموعة من العازفين السوريين، منهم من كان له إسهامات أساسية في التوزيع الموسيقي، وكلهم من طلاب وخريجي المعهد العالي للموسيقى. وهم، وفقا لما أُعلن، ناريك عبجيان البيانو، باسل رجوب ساكسفون، نزار عمران ترومبيت، جورج أورو الايقاع، سعيد الخوري ترمبون وخالد عمران كونترباص. ما زال الحديث، هنا، يجري مصاحباً لدوران محرك الأقراص الليزرية. وسيكون له أوجه مختلفة، وذات دلالة، من على مقعد في القاعة الكبيرة لدار الأوبرا السورية، التي احتضنت، أخيراً حفلة لشماميان. في كل الأحوال، لم يكن الحضور الكبير الذي ملأ القاعة، وبقي قسم كبير خارجها لا يجد مكاناً، قد جاء بناء على نصيحة"السمّيعة"، ورغبة في التقويم. كل ما أراده الحضور الاستثنائي الاستماع إلى ما أحبه سلفا في أغاني التراث المجدّدة. جهِد في تسجيل مقاطع حيّة من الحفلة، صوتاً وصورة، على أجهزة الخلوي، والكاميرات، غير آبه بالرجاء الذي نقلته مكبرات الصوت"يمنع التصوير بفلاش أو بدونه". وبدل الشموع التي يموج بها الحضور منتشياً، في القاعات المفتوحة عادة، كانت الشاشات الرقمية المضاءة تتمايل يميناً وشمالاً، باحثة عن الفسحة الأنسب للكادر. بعد ذلك بدأت الثرثرة، وتبادل الأحاديث ووجهات النظر، وأين؟ في القاعة. ومتى؟ بينما شماميان تغني! الجمهور الذي أحب الأغاني، لم يغفل عن التفاوت الواضح في مستوى الأداء، بين الأستوديو والحفلة المباشرة. بدا صوت شماميان مخنوقا، وغير قادر على تحقيق"الهارموني"المطلوب مع العازفين، إضافة إلى محاولتها الفاشلة في الارتفاع بصوتها إلى طبقات عالية وحادة سوبرانو، عندما غنّت"يا مال الشام". المزاج العكر في القاعة حدا بالمغنية إلى الاستعانة بالله لإسكات الهمس، بعد أن استحال ضجيجاً. وقبل أن تؤدي أغنية صوفية، خاطبت الجمهور:"عندما نذكر الله هناك شيء آخر يجب أن يتوقف". هذا غير أن أحد الحضور المصدومين علا صوته فجأة مخاطباً المغنية:"لينا... نحن لسنا مستعجلين"، وردت عليه بامتعاض بعد أن أخذت رشفة ماء:"لكنني مستعجلة كي أغني لكم". تعكس هذه الجلبة مزاج الجمهور، وأفضل ما فيه أنه فطري ولا يخضع لأي معايير غير الإحساس. إضافة إلى ذلك فشلت المغنية في تقديم الموسيقيين بطريقة لائقة. كلماتها المتعثرة أضاعت الأسماء، بحيث تعذّر على الحضور التقاط اسم واحد. الختام لم يكن خارج السياق السابق. اتبعت هذه الصبية الطريقة الأسوأ في"تجاوز"الخلل، ومن خلفه إعطاء صدى ترويجي. ألحت بطريقة مضجرة، على شكر"من حاول منعنا وإيقافنا". كررته مراراً، وكأن مسيرتها بدأت منذ عقود. بعض التواضع ينفع أحياناً.