أجمع مفكرون عرب ومسلمون على اتهام المستشرقين بالتواطؤ على التشكيك في أقدس كتاب لدى المسلمين قصداً. ودانوا معظم الباحثين الغربيين في الدارسات الإسلامية بركوب موجة الموضوعية للنيل من القرآن، من غير أن يستثنوا شيئاً، بدءاً بنزوله إلى جمعه في المصحف وزعم تناقض قراءاته ومعانيه. إلا أن المشاركين على رغم ذلك دعوا إلى الرد على تلك الشبه بلغة علمية موضوعية، وذلك في ندوة أشرفت عليها وزارة الشؤون الإسلامية السعودية أخيراً في المدينةالمنورة عن"القرآن في الدراسات الاستشراقية"وحضرها نحو 100 مفكر وداعية من أنحاء العالم. وكان أبرز ثمارها الوصية ب"إنشاء مشروع دائرة معارف للقرآن الكريم وعلومه، باللغة العربية واللغات العالمية الأخرى"، فيما لم تكد بقية التوصيات ال 26 تصل إلى شيء ملموس، ناهيك عن جديد مثير. بل واصل معظم فقراتها ما أمعنت فيه البحوث التي تجاوزت 35 بحثاً وهو: هجاء الاستشراق عموماً. ويشير الدكتور إدريس بن حامد في بحث حمل عنوان"آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، عرض ونقد"إلى أن"موضوع الوحي من أوسع الموضوعات التي تناولها المستشرقون في أبحاثهم، ولأن هناك تلازم بين الوحي والنبوة، فإثبات أحدهما هو إثبات للآخر، لأن الوحي من أخص خصائص النبوة، والإخلال في معظم كتابات المستشرقين وقع من جهة بتر النصوص تارة، وبوضعها في غير مواضعها تارة أخرى، مع تحميلها ما لا تحتمل". وأكد أنه على رغم كون"جمهرة المستشرقين لا ينكرون ظاهرة الوحي في الواقع الإنساني، إلا أنهم ينكرونها في حق محمد عليه الصلاة والسلام تعصباً، بينما يثبتونها لأنبياء التوراة والانجيل، والذين وصفوا منهم الرسول بالقيادة والعبقرية والإصلاح والذكاء، سعوا بذلك إلى قصره على البشرية، ونفي نزول الوحي عليه". وحتى الآراء التي"اشتهرت بالإنصاف والاعتدال"يدعو بن حامد إلى الحذر منها"وأخذ الحيطة منها، لأن أهلها يكتبون عن دين لا يدينون به"! وفي شق متصل يشير أستاذ الدراسات اللاهوتية في جامعة القاهرة الدكتور عبد الراضي عبد المحسن، حول الوحي في الفكر اللاهوتي إلى أن"أساليب التصنيف والبحث ومصادر المعلومات عن الإسلام، تغيرت عبر مراحل الفكر اللاهوتي، إلا أن منظور الأخير عن القرآن ظل ثابتاً، في ادعاء أنه كتاب غير رباني المصدر". بل عدّ عبد الراضي الاستشراق أحد"ضحايا الخرافة في الفكر اللاهوتي الذي رأى في الإسلام التهديد الحقيقي والخطر الأكبر لسلطة الكنيسة وحقها المطلق في امتلاك ناصية الحقيقة، على اعتبارها محتكرة لآخر نبأ من السماء". لا ينكر أن ندوة الاستشراق تناولت محاور مختلفة، إلا أنها في الجملة تصل إلى هدف موحد، أجمعت عليه، هو التشكيك المعمم في نتاج الباحثين الغربيين، ففي بحث"وقف المستشرقين من جمع القرآن ورسمه وترتيبه"- مثلاً - كرر الباحث الدكتور أبو بكر بن الطيب التأكيد على ثبوت نزول القرآن وحياً، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، وهو محل تسليم بين المسلمين كافة، وهم المخاطبين بالبحث. وأتبع التمهيد بالقول:"كثير من المستشرقين أرادوا التشكيك في المسلمات ومناقشة البديهيات متدثرين بالمنهج العلمي الموضوعي، وهم بعيدون كل البعد عنه، فألقوا شبهاتهم حول جمع القرآن وتدوينه وترتيب سوره وآياته، محاولين الشك حول هذا الكتاب الخالد، وزعزعة الثقة به في نفوس المسلمين". مدارس الاستشراق ضاعت في التعميم! ومع أن المهتمين بالاستشراق يتفقون على أنه مدارس، أوصلها الباحث في الدراسات الاستشراقية السعودي الدكتور مازن المطبقاني إلى 13 مدرسة، إلا أن طابع تعميم الأحكام السلبية سيطر على البحوث التي حصلت"الحياة"على نسخة منها، من دون استثناء أي تجربة! إذ يقرر باحثو الندوة بلا تردد أن"الهدف المشترك بين معظم المستشرقين هو تشويه الإسلام والقرآن، والتشكيك في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام". ولأن ذلك يتناقض واقعياً مع الإرث الثقافي الضخم الذي خلفه مستشرقون كثر للمكتبة الإسلامية، يقول أستاذ الشريعة في جامعة القرويين في المغرب الدكتور حسن عزوزي:"نحن وجدنا أن عدداً من هؤلاء منافقون يظهرون الوجه الحسن لنا في جامعاتنا، وفي الأبحاث التي ينشرونها باللغة العربية حتى إذا كتبوا بلغاتهم أو حاضروا في جامعاتهم قلبوا لثقافتنا ولديننا ظهر المجن"! وأبلغ الدكتور مطبقاني"الحياة"أن"الخلل الذي عانت منه البحوث المقدمة إلى الندوة، أتى من زاوية أن معظم المشاركين لم يقابلوا في حياتهم مستشرقاً واحداً!! فضلاً عن أن يملكوا أدوات علمية تؤهلهم للحكم على مدارس ذات إرث ضخم، يؤخذ منه ويرد، فأنا لا أتصور أن يبدع باحث في تقديم قراءة موضوعية عن مدرسة استشراقية معينة، أو توجه محدد في الاستشراق مثل الوحي وهو لا يتقن لغة أجنبية واحدة"! ومال إلى رأي قال إنه أثير في الندوة طالب بتنقية التراث الإسلامي من الشوائب الداخلية أولاً، قبل مطالبة المستشرقين بالموضوعية"فكثير مما نقله المستشرقون عن تراثنا إنما أخذوه من مصادر إسلامية أو عربية". ويرى مطبقاني أن الغرب مستعد للاستماع من المسلمين، أياً كان الموضوع الذي يطرقونه، لكن الإشكال في المؤسسات العلمية والجامعات العربية التي لا تمكن باحثيها من المشاركة الفاعلة في المؤتمرات المهمة على هذا الصعيد، ثم يأتي الإشكال الثاني في اللغة التي يوصل بها الباحث العربي رسالة دينه وأمته". وانتقد الطريقة التي أجيزت بها بحوث الندوة التي نظمها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الذي تشرف عليه وزارة الشؤون الإسلامية قائلاً:"إن أردنا الصراحة فإن طريقة إجازة البحوث كان فيها كثير من التساهل غير المحمود. فما معنى أن تقدم العديد من البحوث عن القرآن الكريم عند المستشرقين من خلال كتب قد أكل عليها الزمان وشرب. لقد أعجبني أحد المعلقين حين قال إن كنتم تريدون أن تنتقدوا كتابات المستشرقين فعليكم أن تقرأوها بلغتها التي كتبت بها، فلا يصلح أن ننقل من عشرة كتب تناولت القرآن الكريم في كتابات المستشرقين. أما الموضوعات فينقصها البحث في كيف ينظر المستشرقون إلى القرآن الكريم في جامعاتهم ومعاهدهم اليوم". وخلص إلى نصح المجمع بأن"يعقد اجتماعاً لأبرز المشاركين في اللجان التحضيرية لدراسة أسباب القصور في الحضور والمستوى المتدني التي اتصفت به كثير من البحوث، وأن يفكر المجمع بالتعاون مع إحدى الجامعات السعودية في عقد المؤتمرات والندوات مستقبلاً. أليست مسؤولية الجامعات أن تعقد الندوات والمؤتمرات". ويلخص باحث آخر خلاصة محاورات ندوة المدينة في القول:"يستطيع كل باحث عن تاريخ الاستشراق أن يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا، وقد صاحبه طوال مراحل تاريخية، ولم يستطع أن يتخلص منه بصفة نهائية. وحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن الاستشراق قد حرر نفسه من أسر الخلفية الدينية التي اشتق منها أصلاً إلا بدرجة ضئيلة". وأضاف"الهدف الديني للاستشراق كان يسير منذ البداية في اتجاهات ثلاثة متوازية تعمل معاً جنباً إلى جنب، وتتمثل هذه الاتجاهات في ما يأتي: محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه، وإبرازها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية، والانتقاص من قيمه والحط من قدر نبيّه... إلخ. إلى جانب حماية النصارى من خطره بحجب حقائقه عنهم، وإطلاعهم على ما فيه من نقائص مزعومة، وتحذيرهم من خطر الاستسلام لهذا الدين. وأخيراً التبشير وتنصير المسلمين".