اهتمت المملكة بعلم الاستشراق، وهو ما كشفه الباحث الدكتور مازن مطبقاني في بحث له بعنوان: «دور المملكة العربية السعودية في الاهتمام بالاستشراق خلال ربع قرن 1400-1425ه»، إذ أكد مطبقاني أن كيان المملكة قام مستمداً شرعيته ووجوده من اتخاذ القرآن الكريم دستوراً ومن الشريعة الإسلامية قانوناً يحكم جوانب الحياة جميعاً. وأن المملكة قامت منذ نشأتها على نشر الدعوة الإسلامية وتصحيح المفاهيم ومحاربة الاتجاهات المعادية والتيارات الفكرية الضالة التي هاجمت الأمتين العربية والإسلامية. ولما احتاجت المملكة إلى ابتعاث عدد من أبنائها إلى الخارج والاستعانة بعدد من أساتذة الجامعات من الدول العربية والإسلامية وحتى الدول الغربية، فكان لا بد أن يجد الاستشراق ثغرة ينطلق من خلالها إلى أفكار بعض من هؤلاء الشباب، وهو ما يعرف باسم الغزو الفكري الذي يعتمد على الطروحات الاستشراقية. مفهوم الغزو الفكري يؤكد الدكتور مطبقاني أن عدداً من الجامعات السعودية قامت بتدريس مادة الغزو الفكري، ومن هذه الجامعات - بحسب البحث - الجامعة الإسلامية التي قررت تدريس هذه المادة، كما تم تدريس الغزو الفكري ضمن مادة «قضايا معاصرة» وضمن مادة «الاتجاهات الفكرية الحديثة». وليس هذا فحسب، فإن قسم الانتساب في جامعة الملك سعود قبل 40 عاماً تقريباً قرر على الطلاب المنتسبين لكلية الآداب دراسة كتاب «الفكر الإسلامي المعاصر وصلته بالاستعمار الغربي» للدكتور محمد البهي، وفي هذا الكتاب حديث عن الغزو الفكري والتيارات الفكرية الغربية التي وفدت إلى عالمنا العربي الإسلامي، كما ألحق المؤلف بكتابه ترجمة للمقالة الأولى لعبداللطيف طيباوي حول المستشرقين الناطقين باللغة الإنكليزية، وقدم المؤلف قائمة بأسماء عدد من المستشرقين صنفهم بحسب تعصبهم واعتدالهم. ويؤكد الباحث أن المملكة أدركت خطورة انتشار الفكر الاستشراقي واستغلال عقول أبنائها من بعض الجماعات، فقررت أولاً جعل مادة الثقافة الإسلامية أحد متطلبات الجامعة في الأعوام الدراسية الأربعة، ولم تكتف بذلك بل قررت تدريس مواد متخصصة في الاستشراق في جامعة الملك عبدالعزيز وجامعة الملك سعود وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ولم يقتصر تدريس الاستشراق على الدراسات الشرعية فقط، فقد تقرر تدريس هذه المادة لطلاب كلية الآداب، وكلية العلوم الاجتماعية في بعض الجامعات السعودية. اهتمام عربي بدرس الاستشراق أشار الباحث إلى أن الدول العربية والإسلامية الأخرى اهتمت بالاستشراق كما المملكة، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي بعنوان: «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» ليرد أساساً على افتراءات المستشرقين وعلى رأسهم جولدزيهر في مسائل الحديث النبوي الشريف، إضافة إلى جهوده الميدانية في زيارة معاقل الاستشراق والكتابة عن ذلك في مجلة حضارة الإسلام. وما نشر من مؤلفات كثيرة حول الاستشراق من بينها مثلاً ما كتبه عباس محمود العقاد في كتابه «ما يقال عن الإسلام»، ومحمود شاكر في كتابه «أباطيل وأسمار» وكتابه «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا»، وكتابات محمد محمد حسين، خصوصاً كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث» وكتاب «حصوننا مهددة من داخلها: أو في وكر الهدامين» و«الإسلام والحضارة الغربية»، وكتاب «فلسفة الاستشراق في دراسة الأدب العربي» لأحمد سمايلوفتش الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه قدمت إلى جامعة القاهرة في 1974، ومنها أيضاً كتاب نجيب العقيقي بعنوان: «المستشرقون» الذي يعد حتى الآن أوسع مرجع لأسماء آلاف المستشرقين وترجمات لهم، كما أن هناك كتابات قيمة للرد على المستشرقين في شبه القارة الهندية، مثل كتابات شبلي النعماني وأبوالحسن الندوي وغيرهم. وعقدت ندوات في بعض البلاد العربية والإسلامية حول الاستشراق منها «المؤتمر الدولي حول الاستشراق والدراسات الإسلامية» الذي عقد في جامعة عبدالمالك السعدي بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة عام 1417ه، والمؤتمر الدولي حول «الاستشراق: الخطاب والقراءة» في كلية العلوم الإسلامية والحضارة بجامعة وهران عام 1420ه، والمؤتمر الدولي حول «العلاقات العربية - الأميركية: نحو مستقبل مشرق» الذي عقد في عمان بالأردن بالتعاون مع جامعة برجام يونج بالولايات المتحدة الأميركية عام 1421ه. لكن الريادة السعودية في هذا المجال أمر واضح للعيان، يشهد بذلك إنشاء وحدة بحث متخصصة في هذا العلم سبقت كثيراً من الدول العربية، ثم إنشاء قسم علمي هو الوحيد في العالم الإسلامي يتخرج فيه عشرات الطلاب، إضافة إلى النشاطات الأخرى في العديد من الجامعات السعودية، ونشاطات المؤسسات والهيئات التي تهتم بالفكر والثقافة، وهو ما أعطى السعودية مكان الريادة في الاهتمام بالاستشراق درساً ونقداً.