"...ولم يتسن للقناة التحقق، أو التأكد، من صحة الخبر"، تتكرر هذه الجملة كثيراً في القنوات الفضائية الإخبارية، وهي تقال لدى بث القناة خبراً يصعب تصديقه، ليس بمعنى انه خبر خارق، بل لأن الخبر يثير شكوكاً ضمن التوازنات السياسية، والصراعات القائمة التي أفرزت مثل هذا الخبر، ما يصعب تصديقه. العبارة تحمل إيحاءً، وقدراً من المراوغة، يغريان القناة باللجوء إليه، فهي، أولاً، تظهر القناة على أنها متوازنة، وموضوعية، وتتمتع بالصدقية، وثانياً، وهذه مرتبطة بالأولى، تخلق الانطباع بأن كل الأخبار الأخرى التي لم تلحق بها هذه الجملة، هي صحيحة، أما الخبر المتبوع بهذه الجملة فهو الوحيد المشكوك في أمره. الجملة دخلت، حديثاً، قاموس الإعلام، وخصوصاً المرئي منه، ففي ظل التكنولوجيا المتطورة على صعيد الاتصالات المرئية، في مقدور أي شخص يتقن التعاطي مع هذه التكنولوجيا أن يفبرك خبراً مصوراً، عبر عمليات المونتاج والميكساج، ويرسلها إلى الفضائيات التي قد يغريها بريق الخبر فتبثه، فتحقق سبقاً صحافياً إلى حين، ثم سيتبين أن الخبر ملفق، فتفقد، عندئذ، الصدقية التي تشكل الأساس لبناء علاقة سليمة مع الجمهور الكبير. هذا الأمر يدفع الكثير من القنوات إلى تغليب الصدقية على السبق الصحافي، وحين يسيل لعاب القائمين على القنوات الإخبارية لخبر يصعب تجاهله، يضطرون، مكرهين، إلى اتباع الخبر بتلك الجملة، وهذا الإكراه نابع من أن الجملة تذهب بطزاجة الخبر، إذ تثير من حوله الأسئلة والتكهنات، وهي تنطوي على اعتراف ضمني من القناة بأن مصادرها عاجزة عن البت في صحة خبر من كذبه، لكن القناة التي تبحث عن تواصل مستمر مع المشاهدين تجازف بقول الجملة المذكورة لئلا تصبح صدقيتها عرضة للضعف والهشاشة. ينبغي الإقرار بأن الأخبار المتبوعة بتلك الجملة السحرية، آتية، في أغلب الأحيان، من أماكن تصعب فيها ممارسة العمل الصحافي على نحو مهني، وسهل، مثل العراق وأفغانستان وسواهما من بؤر التوتر التي تختلط فيها الأوراق والملفات، وتتضارب على منابرها التصريحات والبيانات، وتتصاعد أصوات الانفجارات فيصل الخبر، والحال كذلك، إلى مقر القناة مبتوراً، مشوهاً، متناقضاً مثل الأرض التي أنبتته، وقلما نسمع خبراً آتياً من عواصم القرار الهادئة والمستقرة متبوعاً بتلك الجملة، ذلك أن مراسلي وسائل الإعلام يعملون، هناك، في أجواء تتيح لهم الحصول على ما يبحثون عنه من دون تعقيدات أو عقبات. وإذا كانت الجملة تضعف صحة الخبر أولاً، وتقوي صدقية القناة ثانياً، فإنها تحمل كذلك جانباً أيديولوجياً ودعائياً مضمراً، إذ كيف تسنى للقناة، مثلاً، أن تتحقق من صحة خبر جاءها من استراليا أو تشيلي بينما تعجز عن التحقق من صحة خبر آتٍ من الدول المجاورة للدولة التي تحتضن مقر القناة! بعبارة أخرى فإن هدف الجملة يتجاوز مسألة الدقة، ليصل إلى فرض نوع من الإملاء على المشاهد بحيث يصدق خبراً، ويتجاهل آخر.