يؤخذ على الحكومة اللبنانية الحالية، بعد استقالة الوزراء الشيعة منها، بأنها غير ميثاقية. لكن أحداً لم يشكك في دستوريتها، ما دامت تحظى بثقة غالبية برلمانية وما دام مجلس النواب مستمراً في ولايته وكذلك رئيس الجمهورية. وأن تكون الحكومة غير ميثاقية لخروج وزراء من طائفة واحدة ومن لون سياسي واحد، يعني سابقة قد تتكرر، مستقبلاً، مع أي طائفة أخرى بغض النظر عن حجمها وأهميتها، علماً ان طوائف معترفاً بها تتمثل احياناً بوزير واحد واحياناً لا تتمثل مطلقاً. فالميثاقية تعني المساواة وليس حق الفيتو. وعندما شرح الشيخ حسن نصرالله اسباب استقالة النواب الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة، شدد على ان وجودهم فيها لم يعد له معنى لأن اي خلاف سيحسم في التصويت بما يتعارض مع قناعاتهم. وهو بذلك يعتبر ان الخلاف في هذه الحكومة هو الاصل، وليس التضامن الحكومي الذي تحكمه روح الميثاق. لذلك لم يكن مستبعداً ان يحاول بالوسائل الحوارية والتشاورية ان يجعل من التصويت الحكومي، وهو المفترض ان يكون استثناء، قاعدة العمل الحكومي ليبقي حق الفيتو في يديه... والبقية باتت معروفة: تخيير الاكثرية بين منحه هذا الحق، والمخاطرة بالسابقة، وبين انتخابات مبكرة هدفها قلب معادلة الاكثرية والاقلية، وتالياً السيطرة على القرار الكامل للحكومة. المتوقع من التطورات خطير، اذ اعتبر ان الشارع هو الحكم لحل هذه المعضلة، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من احتمال الانزلاق الى المواجهة العنيفة، والدخول في نفق الحرب الاهلية. ومثل هذا الاحتمال لم يعد مجرد نذير شؤم بعد التحول النوعي في سياسة"حزب الله"والذي اعلنه نصرالله في خطابه التعبوي للنزول الى الشارع. منذ تأسيس الحزب، وبعد عمليات تفجير محلات خمور وتصفية خصوم محليين استمرت شهوراً قليلة، حافظ الحزب، خصوصاً بعد اتفاق الطائف وفي ظل الوجود العسكري السوري، على شعار مقاومة اسرائيل. وعلى امتداد هذه الفترة، كانت قدرات الدولة الامنية والعسكرية تحت تصرف المقاومة. ولم يكن الحزب الذي بات المقاوم الوحيد يحتاج الى أي قرار سياسي رسمي. فاستراتيجية المقاومة كانت منفصلة عن الدولة اللبنانية، ومرتبطة باستراتيجية النزاع السوري - الاسرائيلي. ولم يكن للسلطة التي تشكلت بعد الطائف اي حق في التدخل في عمل المقاومة او السؤال عنه، وبغض النظر عما يمكن ان يلحق هذه السلطة التي كانت مجبرة، بفعل الوجود السوري، على التعايش مع هذه الحصة المستقلة ل"حزب الله". وبفعل القدرات الكبيرة المتوافرة للحزب والدعم السوري - الايراني، وبفعل البراعة الاستثنائية لقيادته قياسا على القيادات اللبنانية، لم يكن مضطرا الى الدخول في اي نزاع داخلي، ما دام الجميع مستسلما لهذا الواقع. لا بل زايدت الطبقة السياسية، حينذاك، على الحزب في ضرورة المقاومة والحفاظ على سلاح"حزب الله". وبات الحزب هو حزب السلطة المميز، على الاقل بوضع كل امكانات الدولة بتصرف استخدامه لسلاحه، والإقرار بحقه دون غيره في هذه المهمة. كان"حزب الله"موالياً بامتياز. بعد اغتيال الحريري، وما استتبعه من تغيرات داخلية، حاول الحزب ان يحافظ على وضعه السابق. وتجلت هذه المحاولة بالائتلاف الانتخابي مع القوى المستفيدة من الخروج السوري تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي و"القوات اللبنانية"، اضافة الى"امل"، وبنص البرنامج الحكومي على حماية المقاومة. لكن مع تطورات الاحداث، خصوصا القرارات الدولية الملزمة، باتت الاسئلة تطاول"الحصة"المحصنة للحزب. وحتى ايام قليلة، ظل نصرالله يتحدث، بصفته ممثلا للمقاومة او ل"حزب الله"و"أمل"او قوى"8 آذار"او لقاء الاحزاب والشخصيات الوطنية والحليف الوفي لسورية والحليف الاستراتيجي لايران، مع التمسك بالبقاء جزءا من التحالف الحكومي. حتى بعد حرب تموز، واتهامات التواطؤ الحكومي مع العدوان الاسرائيلي وراعيته الولاياتالمتحدة، لم يعلن نصرالله انه سيخرج من الحكومة ويتحول الى المعارضة. لا بل لم يستخدم التعبير مطلقاً الا في خطابه الاخير، بعدما حذر عشية التشاور انه قد يتحول الى المعارضة... وأول خطوة في المعارضة هي إسقاط الحكومة، بدل محاسبتها وطرح الثقة بها في المجلس والعمل على تحسين التمثيل عندما يحل الاستحقاق الانتخابي. ان تحول"حزب الله"من الموالاة الى المعارضة، على النحو الذي طرحه نصرالله، هو التحول الاول الاكثر اهمية منذ نشأته. يدرك نصرالله معاني هذا التحول، لذلك سعى الى تفاديه، وأرجأ كثيراً إقراره ما دام قادراً على الاستفادة من واقع شاع يوما عن الموارنة: ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم. فهو ليس حزبا عاديا يتوسل العمل السياسي السلمي، خصوصاً ان تحوله الى المعارضة ينطلق من عدم قدرته على التحكم بما هو"لكم". انه حزب مسلح، ويكاد ان يكون الطرف الاقوى عسكريا في لبنان. ومهما أطلق من دعوات الى التحرك السلمي والحضاري وشدد على ان الاهداف وطنية وغير مذهبية، لا يمكنه ان ينفي انه مسلح ويتحرك لإسقاط الحكومة واقامة اخرى بدلاً منها. وعندما تكون المعارضة مسلحة وساعية الى التغيير وعمودها الفقري من طائفة واحدة، لا يبقى أي معنى للحديث عن المؤسسات والدستور والميثاق.