اللعبة السياسية في فرنسا تغيرت. لأن بنية الاقتصاد ووظيفة الدولة وحاجاتها تغيرت، بفعل التقدم والمكننة وضغط الانتاجية والتوسع الاوروبي الذي يفرض انفتاحا مطلقا للاسواق الداخلية، استيرادا للسلع والخدمات والعمالة. لم تعد الدولة رب العمل الذي يستقطب تلك الاعداد الهائلة من الخريجين. ولم تعد الزراعة والصناعة التقليديتان، قادرتين على امتصاص البطالة المتزايدة. ومع ازدياد البطالة وكثرة عدد المتقاعدين، باتت الدولة وصناديق الخدمات الصحية والاجتماعية عاجزة عن تسديد اعبائها المتراكمة، سنة بعد سنة. سنوات الطفرة، الممتدة من مطلع خمسينات القرن الماضي حتى مطلع السبعينات، مضت الى غير رجعة. ويعيش الفرنسيون بين حال اليأس من الوضع الراهن والحنين الى تلك الطفرة. ثمة قناعة بأنه ليس من السهل استعادة"العيش الرغد"على الطريقة الفرنسية، وبأنه لا بد من تطوير وتغيير. وثمة قناعة ايضا بان قطيعة مع هذا الماضي تقضي على"التفرد الفرنسي". ويعي الفرنسيون، على نحو متزايد، ان"الاستثناء"الذي عاشوه على الصعيدين الاقتصادي والخدماتي لم يعد قابلاً للاستمرار في ظل التغيرات الكبيرة، خصوصا مع الانتقال الى فضاء اليورو وموجباته القانونية. وحتى"الاستثناء"الثقافي بات يواجه تحدي توسع الاتحاد الأوروبي والعولمة. وذلك، رغم تشبث النقابات وفئات اليسار المتطرف، التي ما تزال فاعلة، ب"مكتسبات"ماض لم يعد الحاضر قادرا على توفيرها. شعاران بسيطان اطلقتهما الاشتراكية سيغولين رويال، خلال حملتها الحزبية، وضمنا لها فوزاً ساحقاً في وجه اثنين من عتاة السياسيين في الحزب الاشتراكي يسمونهم الفيلة. هذان الشعاران هما التطوير في سبيل التغيير و"الديموقراطية التشاركية"، أي إشراك المواطن في مكان عيشه بإدارة حياته. فاستجابت نسبة تفوق ال60 في المئة من اعضاء الحزب الاشتراكي للشعارين، ورفض الحزبيون لوران فابيوس، اصغر رئيس للوزراء سناً في تاريخ فرنسا ودومينيك ستروس - كان، العقل الاقتصادي للحزب الاشتراكي. راهن الاثنان على برامج معقدة تتطلب الكثير من التفاصيل، وراهنا ايضاً على خبرة في الادارة الحكومية، لكنهما سقطا في الدفاع عن حصيلة عمل حزبهما عندما كان في الحكم، وبديا كاستمرار لمرحلة الراحل فرنسوا ميتران او للانتصار الانتخابي النيابي في 1995، الذي انتهى الى فجيعة نيسان ابريل 2002 عندما لم يتمكن مرشح الحزب آنذاك ليونيل جوسبان من عبور الدورة الانتخابية الرئاسية الاولى. بدا فابيوس وستروس - كان من هذا الماضي الآفل والفاشل. في حين ظهرت رويال صاحبة تطلع الى المستقبل، تستفيد من التجربة السابقة لتطويرها من اجل تجاوزها نحو الافضل. وأول كسر للتقليد الجامد هو اعلانها طموحها الترشح الى الرئاسة. فالحزب الاشتراكي كان يعطي دائما هذه الميزة لأمينه العام وليس لعضو في القيادة. علما ان من يشغل المنصب حاليا هو شريك حياة المرشحة الحالية. واذا كانت رويال ليست المرأة الاولى التي تنافس على الرئاسة، فإنها الأولى التي اعتبرت ان انوثتها من مصادر قوتها. فالمرشحات التقليديات، خصوصا من اليسار المتطرف وجماعات البيئة، طغى عليهن الجانب النضالي. وبدت هذه المرشحات تكملة للوحة الفولكلورية التي ترافق كل انتخابات، اكثر من كونهن طامحات فعلا للفوز. والأهم من ذلك، فرضت رويال تقليدا جديدا يتمثل بالانتخابات الحزبية حملة دعاية واقتراع، ما يفتح المجال امام خطوة مماثلة لاختيار مرشحي الحزب الى مواقع اخرى، نيابية وبلدية ومناطقية، ويقلل دور القيادة المركزية. وهذا سيؤدي الى تجديد دائم وفتح المجال امام القيادات الشابة وانهاء دور"الفيلة". ولم يقتصر فرض هذا التقليد على الحزب الاشتراكي، وهو تقليد بدأ به حزب الخضر، بل انتقل ايضا الى الحزب الشيوعي الشديد المركزية القيادية، وسيخضع له حزب وحدة الحركة الشعبية الحاكم. ولن يقتصر الترشيح على المنافس الأكثر ضجيجاً رئيس الحزب ووزير الداخلية الحالي نيكولا ساركوزي. في مقابل برنامج التطوير الاشتراكي الذي مثلته رويال، جعل ساركوزي"القطيعة"مع الماضي، خصوصاً بشقه الشيراكي، شعارا له. هذا الشعار أثار المخاوف لدى الأكثرية الحاكمة التي تسعى الى مرشح آخر يمتدح فوائد التغيير ضمن الاستمرار مثل رئيس الحكومة دومينيك دو فيلبان او وزيرة الدفاع ميشال أليو - ماري، لأن غالبية الفرنسيين لا ترتاح الى"قطيعة"غير واضحة المعالم وتدفع البلد الى المجهول، خصوصاً ان القطيعة تستهدف النموذج الفرنسي. جوهر المعركة الرئاسية المقبلة سيكون القدرة على الاستقطاب لأحد البرنامجين، التطوير او القطيعة. هذا اذا لم يطرأ ما يجعل شيراك يترشح مجدداً تحت شعار مواجهة أزمة دولية كبرى.