يعود مصطلح دولة الرعاية الى أكثر سنوات الحرب العالمية الثانية ظلمة. فيومها استعمل اسقف يورك تعبير"دولة الرعاية"على الضد من عبارة شاعت يومذاك هي"دولة الحرب"، كناية عن النازية. وأراد الاسقف بالعبارة فكرتين: وتدعو الأولى الحكومات الديموقراطية الى تقديم حماية مواطنيها الاجتماعية على المهمات الأخرى. وتنبه الثانية الى ان تخلف الحكومات عن ذلك قد يرتب الانزلاق الى التوتاليتارية أو الشمولية. وعليه، فدولة الرعاية هي شرط دوام مجتمع حر وديموقراطي ثابت. وفي أعقاب نصف قرن تشهد أوروبا تفتح منازع شمولية على هذا القدر أو ذاك، شأن الحركات السياسية المعادية للأجانب، أو حركات الفاشيين الجدد، وهي تستقطب"الخاسرين"من النظام الاقتصادي، ومن مر الزمن على خبراتهم ومعارفهم غير المناسبة. ويتهدد هؤلاء عزل اجتماعي قوي. ولا ريب من أن فقد شريحة عريضة من المجتمعات الأوروبية الأمل في تحسين ظروفها، مسألة تثير القلق. ولكن أين دولة الرعاية من هذا؟ والحق ان البناء الاجتماعي الذي شيد بعد الحرب لم يعد قادراً على الاضطلاع بمهمته الاولى، أي تأمين شبكة حماية، إقناع الطبقات الفقيرة بأن الارتقاء الاجتماعي مستمر جيلاً بعد جيل. وفي خضم أوضاع متقلبة نكصت دولة الرعاية عن توفير الشعور بالأمان الذي كان غايتها الأولى. وتتهدد هذه الحال الديموقراطيين - الاجتماعيين على قدر ما تتهدد الليبراليين. فمشروعية التيارين نهضت على الوفاء بوعد ضمان فرص متكافئة. ويفسر الليبراليون ضعف تكافؤ الفرص ببطء انتشار الحريات الفردية. وعلى هذا، يمتحن صدق اليمين السياسي امتحاناً قاسياً اذا ظهر ان حرية الافراد إنما تتبع أصولهم الاجتماعية. ويتهدد ثقل الارث الاجتماعي التقليد الديموقراطي. فهو عقبة في وجه الوفاء بوعد المساواة. ويدل مسار دولة الرعاية في نصف القرن المنصرم على ان الدولة اضطلعت بضمان التوظيف والحماية الاجتماعية والتعليم. ولا شك في انها قامت بذلك من طريق توزيع الثروات، وتخفيض الفقر، قياماً فاعلاً ومجزياً. ولكنها لم تفلح في رعاية تكافؤ الفرص. ويبدو من دراسة مسارات التقدم المهني، والنجاح المدرسي، وتحسن المداخيل، ان عوامل هذه تدين بشطر غالب الى الجيلين اللذين سبقا الجيل الحالي. وعليه، فدولة الرعاية أخفقت في باب تكافؤ الفرص. وينبغي تالياً، تعريف دولة الرعاية التعريف الذي يتيح للمواطنين فسحة فرص متكافئة، في القرن الحادي والعشرين، أوسع من الفسحة الضيقة الماضية. وثمة خطوط عريضة على الدولة التزامها، لتكون"راعية"حقاً. فأولاً عليها اعادة تخطيها الحماية الاجتماعية، والتخلي عن الوسائل التقليدية، إيلاء المكانة الأولى للاستثمار الاجتماعي، خصوصاً في الاولاد. فعلى سبيل المثال، اذا ارادت فرنسا الغاء فقر الأطفال، اقتضى ذلك 0.4 في المئة، من إجمالي الناتج المحلي. وهذا ثمن بخس يمكن تحصيله من طريق عمل الامهات. فعندما تعمل الام ينحسر فقر الطفل تلقائياً. ومسألة الارث الاجتماعي تدور على نقل المخزون المعرفي والثقافي من جيل الى جيل. وليس هذا شأن السياسات الاجتماعية. فلا قانون يدعو الاهل الى القراءة على مسمع أبنائهم كل مساء، او تعسرهم على تقليص التلفزيون. ولكن ثمة حلولاً تحقق بعض المساواة في النمو الثقافي من طريق تحسين الحضانات التي توفق بين حياة الأهل العائلية وحياتهم المهنية. فهل يعاني الاطفال مصاعب عندما يعمل كلا الوالدين؟ الجواب على وجهين. فعمل الام في اثناء سنة الطفل الاولى مؤذٍ. ولكن في وسع الوالدين تنسيق الاجازات في ما بينهما طوال سنة. وهناك حسنة أخرى لتنسيق الاجازات. فالأم تقلق رفاهية أولادها اكثر من الأب. والأم العاملة تتضافر قوتها مع قوة زوجها، وهذا يلزمه تأمين مال ووقت أكثر لأولاده. والأجدى اعتماد نموذج استثمار يحسن حياة الافراد والجماعات على حد سواء. ففي فرنسا يترك 20 في المئة من الطلاب مقاعد الدراسة قبل الأوان، و7 في المئة لا يحصلون الحد الادنى من المعرفة. ومعنى هذا ان هذه الشريحة موكول بها الفقر. وعلى صعيد المجتمع كله، تخلف هذه الحال انتاجية أقل، ونمواً اقتصادياً ابطأ. ويقدر في السنوات الآتية ان تعتمد شريحة عريضة من المسنين في تحصيل الضمانات الاجتماعية، على مداخيل شريحة ضيقة من الشباب. ويقتضي هذا الحرص، منذ اليوم، على ان يمتلك اولاد اليوم ما يحتاجونه لأجل تحصيل انتاجية عالية لاحقاً. وشرط هذا تعزيز الديموقراطية في بلداننا، فيستعيد الناس الامل في تحسين ظروفهم. وربما علينا ان نعيد ترتيب أولوياتنا السياسية: فبدل تقديم ضمانات الشيخوخة على المشاغل الأخرى، حري بنا العناية بالأولاد الصغار. فالشيخوخة الآمنة تبدأ بطفولة آمنة. عن غوستا إيسبينغ - أندرسون ، "لو موند" الفرنسية، 7 / 11 / 2006