لم يقرأ "حزب الله" منذ انطلاقته سنة 1983، كما كانت حال قوى سياسية أخرى في لبنان، أهمية خصوصية للبنان والتراكم الفريد في مكونات شعبه وتركيبته المميزة، لينأى بنفسه عن الخيارات الاستراتيجية الضاغطة على الوضع اللبناني والمستفيدة الى أبعد الحدود من انقساماته الداخلية لتحقيق أهدافها. ولم يدرك بالتأكيد ان المستنقع اللبناني المختزن الكثير من أسباب النزاع والفرقة والصراع الضمني، يشكل على الدوام امتحاناً عسيراً لمدى قدرة أي قوة سياسية على استنبات أي مشروع سياسي جدّي في مقدوره إحداث نقلة نوعية في الوعي العفوي السياسي القائم، ليتحول اللبنانيون من رعايا مرتهنين لطوائفهم ومأسورين فيها الى مواطنين في مستوى تطورهم. ولم يتعلم"الحزب"ما فيه الكفاية من تجربته الخاصة مع النظامين السوري والإيراني أن تعاطيه معهما لن يصبح ندياً فيستطيع تفادي الخيارات الاقليمية الحاملة احتمالات سلبية للبنان، علماً ان العلاقات"اللبنانية"التي اخترق بفضلها حواجز الطوائف والمذاهب تختلف عن الخيارات الاقليمية واملاءاتها. وامتثال الحزب للخيارات الاستراتيجية الكبرى قد يقوده الى حال مربكة من التناقض والتخبّط والضياع، وإن كانت المنطلقات المبدئية متجانسة بل متطابقة. فذلك العملي والممارس والمعاش في كثير من الأحيان يتطلب مراجعة نقدية للمنطلقات ويدفع باتجاه استخلاص دروس غير متوقعة ومهام لم تكن في الحسبان النظري الصرف. والتجربة اللينينية ثم الماوية غنيتان جداً في هذا المجال: هذا ما دفع لينين مثلاً بعد انقضاء بضعة شهور على البدء في تطبيق الاشتراكية الى اعادة النظر وبكثير من الموضوعية العلمية في خطط هذا التطبيق وأسسه العملية، وما جعله يعكف على دراستها فيؤلف أفضل كتبه"المادية ومذهب النقد التجريبي"، لأن النظري والمبدئي والبحث العلمي البحت وتصور القضايا شيء والعملي الممارس والمعاش شيء آخر. في الثاني الكثير من الأول لكنه يختزن أيضاً ما فيه الكفاية اختلافاً وتعديلاً واغناء لما تقدمه النظرية نفسها. تأسيساً على هذه الفروقات في الإمكان القول مثلاً أن"حزب الله"الذي يملك مشروعاً دينياً سياسياً لمجتمع ذي غالبية ساحقة إسلامية لم يكن يتوقع عند نشوئه وتطوره وتحوله الى قوة وازنة كبيرة وفاعلة في لبنان، أن يعقد تحالفات سياسية ضرورية تدخله في تركيبة المدن والبلدان والقرى ذات الغالبية المسيحية النسبية أو الطاغية، وهو في حاجة ماسة اليها للبقاء والاستمرار والترقي، فالعلاقة مع المسيحيين مثلاً تتطلب منه وتفرض عليه التكيّف مع خصوصيات وتعقيدات المجموعات السكانية المسيحية وحساسياتها الدقيقة والمرهفة، ما يختلف في كثير من الجوانب مع تركيبته وتكوينات الساحة الإيرانية وقضاياها الملحّة ومهماتها التطبيقية. فالمناداة بجمهورية إسلامية، ذات معتقدات شيعية تتخطى الحدود الكيانية والحواجز الجغرافية، لا تتناسب ولا تتوافق مع مجموعات سكانية مسيحية فحسب بل أيضاً مع مجموعات سكانية إسلامية سنية، ولا يغيب عن الجميع ان المسلمين السنّة هم الأكثرية الكبرى في المشرق العربي فضلاً عن كونهم في لبنان الطائفة الثانية عددياً ان لم تكن الأولى. ولعلنا هنا نعثر على الأجوبة الملحة لتفسير ظاهرة اقتصار"حزب الله"كحزب وكحركة شعبية دينية مسلحة ومقاتلة تملك برنامجاً سياسياً محدداً على المناطق الشيعية في لبنان دون سواها، ذلك ان التحالفات السياسية المرحلية مع قوى سياسية أخرى في مقدورها اكتساب أصدقاء ومناصرين مندفعين في تأييدهم لحد الحماسة المعلنة، لكن الحزب يظل مرهوناً بقواعد التحالفات ومصالحها من دون تغذيته بعناصر بشرية جديدة تنضم الى صفوفه، لأن الاختلاف لا يكمن في المواقف السياسية ومردودها الايجابي بل في المسائل المبدئية والعقائدية بالدرجة الأولى وبالانتماء الديني والمذهبي. والدروس الممكن استخلاصها من تجربة"حزب الله"كمقاومة مسلحة حققت انجازاً عسكرياً نوعياً في جبه الآلة العسكرية الإسرائيلية ومقاومتها، تقودنا الى التساؤل حول طبيعة علاقات الحزب بالنظام الإيراني بما للأخير من مصالح استراتيجية، له تحالفاته وارتباطاته المبررة، الا ان الواقع السياسي والمعطى الذي يتحرك فيه الحزب ويعيش ويستمر مختلف كثيراً عن واقع الثورة الإسلامية في ايران التي بوسعها مثلاً أن تدخل في علاقات ايجابية أو سلبية مع أنظمة عربية أو عالمية ومن دون تحفظ، فيما"حزب الله"غير قادر على الإشارة الى التقاعس السوري عن القيام بواجب مقاومة استمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان، ولا على استدراج النظام السوري العروض لعقد صفقات مع الأميركيين قد يدفع الحزب نفسه ثمناً لها. ولعل الحزب في وضعيته هذه يخوض التجربة المضنية ذاتها التي عانت منها في السابق الأحزاب الشيوعية خارج المنظومة الاشتراكية عندما كانت تصرف نصف مخزون خطابها السياسي في الدفاع عن مواقف الدولة السوفياتية وتبريرها، بل ان النظام السوري بسبب تاريخية علاقاته بالساحة اللبنانية وربطه الكثير من الوجوه والقوى السياسية، يسعى على الدوام لفرض نمط الربط هذا على الحزب، ما يضعف من صدقية الحزب وشفافيته التي يتغنى بها، خصوصاً أن بعض هذه الوجوه والقوى سبق لها أن انغمست في الفساد والفضائح المالية والانتهازية السياسية، أما"الحزب"فيحرص على إبقاء صورته الشعبية لماعة، ما أكسبه الكثير من الألق السياسي والالتفاف الشعبي كأنموذج مغاير تماماً للوجوه والقوى الحليفة لسورية، خصوصاً حركة"أمل"ذات الارتباط التقليدي بالنظام السوري وبدرجة أقل بطهران. إلا أن"الحزب"في المقابل لا يواجه مشكلة التباين بين ما هو نظري وعملي تطبيقي فحسب، بل، كما أسلفنا، بين وضعيته كحزب وعلاقاته العملية بالنظامين الإيراني والسوري اللذين يعاني كل منهما من متاعب تتطلب حلولاً جدية وحاسمة، فالنظام الإيراني في اندفاعه المحموم وراء اكتساب ثقل نوعي في الساحة اللبنانية لم يكتف بفرض املاءاته على"حزب الله"فحسب مفجّراً حرباً مدمرة على لبنان بل انغمس في نشاط داخلي مثير، عندما، فضلاً عن إغراقه الساحة بالمال مستميلاً من أمكن من الصحافة وأهل الإعلام والنوادي والجمعيات، قام هو بنفسه بالتعويض السخي على الشهداء والجرحى والمتضررين من الحرب، ما أدخله في البازار المالي المتدفق على لبنان. وكأنه بتفجيره الحرب كان يبعث برسائل مهمة الى الكثير من القوى الدولية المعنية، فضلاً عن اسرائيل، حول مدى الإيذاء والضرر الممكن إلحاقه بالمنطقة في حال تعرضه لحملة عسكرية. أما النظام السوري فيلزم الحذر بعد انسحابه من لبنان، وهناك قوى تتهمه بدفع الوضع اللبناني الداخلي الى الانفجار ليثبت استحالة الاستقرار اللبناني من دون حضور سوري عسكري. هكذا يجد"حزب الله"بعد أن جرى احتواؤه عسكرياً جنوبي الليطاني أن أي مشكلة عسكرية مع القوات الدولية لا ترتد مسؤوليتها عليه فحسب بل تؤدي بحسب التوقعات الى تدويل لبنان بالكامل هذه المرة. هكذا نفهم لماذا يصمد الحزب بعد أن سدت بوجهه طريق الجنوب للاستدارة نحو بيروت حيث الحكومة التي يسعى لإطاحتها أو الوصول الى تسوية لأن ساعة الحرب الشاملة في المنطقة لم تحن بعد. أزمة مفتوحة يعيش فصولها اللبنانيون رغماً عنهم، ويدفعون أثمانها كلفة عالية تزداد ثقلاً يوماً بعد يوم. * كاتب لبناني