أشبعت ظاهرة الفاشية درساً، وشغلت باحثين كثراً في الاجتماع والتاريخ والسياسة على مدى عقود. تمهيداً، يقتضي تعريف محمول القضية لأنَّ المقصود عامة نماذج متنوعة، اختلفت تسمياتها تبعاً للحركات والبلدان، واجتمعت عناصر وملامح مشتركة بين جميع تلاوينها. بديهي، عند ذكر هذه المنظومة أن تحط الذاكرة على أرض أوروبا التي عرفت صيغها الصافية والشرور والمآسي التي استولدتها أو تسببت بها موقعة الحروب والدمار على قارة بأكملها. في هذا السياق نالت ألمانيا وإيطاليا النصيب الأوفر، إذ احتضنت كل منهما باكراً تجربة خاصة نازية ، قومية، اشتراكية في الرايخ الألماني، فاشية تربَّع على مصائرها موسوليني بعد مسيرته وانتزاعه دفة الحكم في روما. غير أنَّ مقلِّدين"للنظام الجديد"فرَّخوا آنذاك في أكثر من بلد، واقتبسوا من الأصل بألوان قومية متفاوتة في حرفيتها ونكهتها، أبرزهم فرانكو و"كتائبه"في إسبانيا، ومنهم من ولَّى وانتهى بجريرة المحور هورتي في المجر وسواه في رومانيا وفنلندا إضافة لفاصلة الماريشال فيشي في فرنساالمحتلة وما اتكأت عليه من جحافل تطوعت لإسناد معاهدته مع ألمانيا وقمع المقاومة، فكان أن مزَّقها التقدم الروسي على الجبهة الشرقية وقوَّض كيانها. وعلى أقصى الطرف الشرقي من آسيا، أحيت الطغمة العسكرية تقاليد اليابان العسكرية وشحنتها بالتعصب القومي الحاد، فاجتاحت الصين ونكَّلت بشعوبها ونصَّبت صنائعها قبل أن تلتحق بالمحور لتقاتل حتى السقوط المدوِّي والانهيار أمام الحملة الأميركية وتنحني نهائياً بعد قصف هيروشيما وناغاساكي بالقنبلة الذرية. وحده فرانكو تمكن من الصمود، واجتاز حقبة الحرب العالمية وسنوات إعادة بناء أوروبا، بوقوفه على الحياد بادئاً، وبفعل التوازنات الدولية الجديدة وحرص الولاياتالمتحدة على تدعيم الحلف الأطلسي في مواجهة المعسكر الشرقي الناشئ. وعلى كتف إسبانيا الغربي، استمر نظيره سالازار في البرتغال بقالب الحكم الفردي والقبضة الغليظة يغازل الأفكار الفاشية دونما صبغة فاقعة، واستمد كلاهما نعمة البقاء من الوفاء للكنيسة الكاثوليكية والتظلل بفيء محافظيها. انتقلت عدوى الفاشية ملطفة شعبوية إلى أميركا الجنوبية التي لجأ إليها العديد من النازيين بعد انتهاء الحرب. تمظهرت بأشكال حكم قوي يزدري بالدستورية ويرسي قاعدة الحزب الواحد وإشراف الطغمة العسكرية على"الثورة"الوطنية. لفَّت هذه المقولة العديد من دول نصف القارة الأميركية الجنوبية، وتمثَّلت طويلاً بنموذج بيرون في الأرجنتين، ولاحقاً بالجنرال بينوشيه في التشيلي أثر اغتيال اليندي. مذ ذاك، غدت الشعبوية ملاذ دعاة الشمولية التعبوية ونمط الحكم الحديدي، تمتاز عن الفاشية المدانة لكونها وليدة ظروف مغايرة في بلدان عالمثالثية مقارنة بالنسب الأوروبي للفاشية عادة، تنتقي من سالفتها أساليب وأشكالاً، وتعنى بالطقوسية والزبائنية وسائر مشتقات نظرية تأطير الشعب وصهره في بوتقة واحدة من خلال منظمات عمرية وقطاعية ترافقه من الطفولة إلى المسكن والعمل. تنتسب الشعبوية إلى مدرسة فرعية هي أقرب ما تكون إلى فاشية الفقراء، دعامتها مثلثة الأركان ماثلة لدى جميع أربابها، تتلخص في الإيحاء بأن الوطن في حال حصار مما يستدعي انبعاث الأمة ببعد خلاصي دليله القائد المرشد على اختلاف التسميات. ويتم إقصاء المواطنين في أسر هذه المعادلة بحيث يضحى استشعارهم بالخطر رصاً للصفوف وتلبية لنداء واجب تصقله الدعاية وتزيِّنه دفاعاً عن حرمة الجماعة والوطن، ظناً بأنَّ الامتثال بمثابة المشاركة في رصف البناء الحامي والمساهمة في الذود عن المقدَّس. يجري استحضار واستخدام المقدَّس طرداً كرافعة تعبوية وسقف جامع. بدت النازية وثنية إلى حد بعيد على خلفية الأساطير الجرمانية القديمة، بما لا يتناسب مع التوليفة الشعبوية والمزاج الثقافي في غير بلد، فاتخذ المقدَّس صيغة دينية حيثما العامل الديني غالب، وتجلبب بلبوس مدني محايد مسقطاً مفهوم القداسة على الأرض / الوطن/ النظام، اقترنت بأيديولوجية النظام المؤسسة العلمانية، التي طالما طويت صفحتها بغية إرضاء الأوساط المحافظة وكسب ود أو صمت الاكليروس. في طليعة الطقوس، يأتي الحشد المنظم وفق روزنامة مدروسة في مشهد احتفالي مهيب وعروض استعراضية ومبرمجة. لكل حدث وكل محطة عالقة"بالثورة"الوطنية ذكرى، مغلفة عن قصد بقشرة أسطورية عنوانها الدائم الانتصارات المحققة وتلك الموعودة. هكذا تكتسب المجريات الحدثية رمزية، وتحيي اتصالها بالموروث الأصيل وأمجاد الماضي، فتتجسد في القائد / الأيقونة، وتربط استمرار التاريخ به، وتعقد الآمال على بقائه، لا شريك له، ولا مسافة بينه وبين العامة. وهكذا تتحوَّل الساحات دواوين ومجالس، ينظر الزعيم من خلالها في مطالب الجماهير المختلفة، ويعكس عفوياً حاجاتها وأمانيها، ويسرح في مكنون ضميرها الجمعي. يُشيَّد النظام الجديد عمارته من حجارة مجتمع طائع، خدر وعيه ووهنت مناعته نتيجة منهجية مجربة متكاملة الأدوات، ذات أصول وملامح فاشية كلاسيكية بالمعنى السوسيولوجي. ورغم اجتهاد منظريه لنفي هذا النسق أو إنكاره بادعاء هويته الوطنية الخالصة النابعة من إرادة المجتمع والآخذة بخصوصيته، تعيد كل تجربة إنتاج مولود شبيه التكاوين والصفات: بأس قمعي اجتثاثي للمخالفين عند أولى خطواته، تمهيداً لإحاطة أمنية واقية، تأطير، طوعي في الشكل، وقسري واقعاً، لمختلف شرائح المجتمع، تنشئة الأطفال واليانعين تحت الضبط والوصاية، وتشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية للأنصار توفيراً لذراع ضاربة، والكل يندرج في بوتقة أمنية شاملة، هي العصب والعين الساهرة، والكل يصفق ويلتحم تحت الرايات ووقع الشعارات. كتب باحثون أرَّخوا للفاشية الأوروبية بإسهاب، وسجَّل من تسنَّى لهم من معاصريها المناوئين شهادات حيَّة عن الماكينة القاتلة للجسد والروح، وكيفية تفعيل آليات ترويضها للنفوس وإشاعة الوشاية ضمن العائلة الواحدة، وما يفوق التصور من قيام الأطفال والأبناء الذين تشرَّبوا سموم الدعاية البغضاء في المدارس والمخيمات الكشفية ومنظمات الروَّاد، بالانقلاب على ذويهم واتهامهم وجرِّهم إلى أقبية المخابرات. حكوا جميعاً عن تنميط السلوكيات وذوبان الفرد في الجماعة، والتشبع بالكراهية حيال الآخر المغاير، العدو الذي يجب سحقه في الداخل، والانتصار عليه في الخارج. ورووا عن صيحات النساء في محضر القائد النرجسي وإثارته مخيلتهن الجنسية، والأونيرية إيقاظ الأحلام المخيمة الجارفة لكل محاولة نقد أو إعادة نظر. عملت هذه العوامل المركبة على الإمساك بالعامة، لكنها استهوت أيضاً شريحة من أهل العلم والبصيرة، انقادوا طوعاً إليها، وناصروها، وشرحوا امتيازها ونفحتها التغييرية الثورية إزاء انحطاط البورجوازية وسيطرة اليهود على فضائها الفكري المندثر المنحل. لن تقتصر هذه الظاهرة على العهد الفاشي، بل ستشكل قاعدة انحياز موصوف لنظراء ساروا على منوال السلف، وانبهروا بهالة الشمولية والحكم القوي، وآثروا جاذبيتها ووعودها على الموقف النقدي، لينتهي بهم المطاف إلى حضن حمايتها يبحثون عن نبل الغايات في دائرة الظلامية، ويرسمون معارج"ثورية"لثقاتها. فعلى خطى جاك دوريو الفرنسي القادم من الوسط العمالي وبوحي من مهادنة الفيلسوف الألماني هايدغر لهتلر، ولجوء عناصر يسارية معادية للإنكليز في مصر إلى تشكيلات حديدية المبتغى، تترقب انتصار رومل على مونتغمري، وانخراط من تتلمذ على العمل الفدائي الفلسطيني في الثورة الخمينية، أو من ناهض نوري السعيد ووقع في شبكة صدام حسين، تكفلت سلسلة من المغريات والتبريرات النظرية في حرف"مناضلين"عن دروب منزلهم الأصلي وولوج حقل مليء بالألغام. افتتان مثقفين عرفوا التنوير وقيَّموا النهضة والانعتاق من الموروث بالكيانية الشمولية ليس بالعجيب. إنَّ اختيار الشعبوية المغالية مربطاً لرحالهم هو بمثابة رهان غير مضمون، خطوة نوعية إلى الوراء. فالأصل لا يستوي في ما تردده الشعارات من عداء للإمبريالية وكنس لحضورها، بل في مضمون الجاذب البنيوي ومحموله الثقافي ومرجعيته الفكرية وسلوكياته حيال الفرد والعلم والحرية والتطور والسعادة، عوض رص الجماعة وركوب الغيبي واستلاب الشخصية والعودة إلى الغابر الذهبي والوعد بالجنة. والغاية لا تبطل موازنة الأثمان والتروي في الأحكام وتجاهل الوقائع بذريعة التضحية المجانية بجيل أو أكثر في سبيل تغيير ملبَّد الآفاق شحيح النتائج، وترحيل الحصاد إلى غد مجهول. أما الكفاية الذهنية القائلة بالتسديد على مصدر الداء والخصومة كيفما اتفق ذلك، وتعريفه حصراً خطراً خارجياً وحيداً، ففيه من التبسيط قدر، وفيه من المقامرة إسقاط للعوامل الذاتية، وهروب بقماشة ثورية وتمنطق بحجج مسايرة. يقود شبق السلطان والقوة من يشكو عجزاً ويعي ضعفه إلى انبهارية موصوفة وانحناء وظيفي أمام أصحاب الأمر والبأس في اللحظة. يعوِّل، من فقد طاقة التعبئة وضمرت أفكاره، على المقتدر الناظم، عساه ينعم عليه بدور ويفسح له في المجال. تلك حال تكررت صورها عبر التاريخ، وتأكدت منزلقاً استثمرت النظم الفاشية مسراه وجنت فوائده. على هذا المنوال تنسج الشعبوية في الزمن الحاضر وتلقى آذاناً صاغية وحناجر ملتهبة وأقلاماً مدافعة. وتستمر الظاهرة مرتاحة إلى تآكل النقد والممانعة، طالما تمكَّنت من وطء أرض النخبة العصية، تمتص بعض إفرازاتها في نسيجها وتفي برد الأجر أجرين، وخلع مستزيد الوطنية على القادم الجديد المزهو بجماهيرية من غير صنعه، وبموقع لا يشحذ بعقلانية وانفتاح إنما يخدم غايات دفينة وينمي خصائل منزوعة الجوهر الديموقراطي، مرتابة من الحداثة. * كاتب لبناني