إبن ال52 لم يتغير. ما زال كما هو، تدبّ في حناياه نضارة الشباب وتسري في عروقه دماء الفتى العشريني الأسمر. سيّد مسرحه هو بقامته القصيرة وصوته الجهير وبحّته المميزة. تكادُ لا تلمح فرقته الموسيقية الشحيحة عدداً التي ترافقه في أمسيته الغنائية، لفرط تنقله بخفةٍ في أرجاء مسرحٍ تحوّل في هنيهةٍ إلى فضاءٍ رحبٍ لا يسرح فيه إلا هو، تماماً كما يلهو ولدٌ في حقلٍ يستحيلُ فيه لبرهةٍ سيّد العالم بأسره. قد تراه وحيداً مع مذياعه، يبث فيه لواعج قلبه، لتجدهُ بعد لحظةٍ، مستبدلاً آلةً بأخرى، منتحلاً وظيفة هذا العازف أو ذاك... مع غيتاره، أو وراء البيانو، وسط المسرح المجرّد، بفعل الأضواء الخافتة، من كلّ أمرٍ، اللّهم من كرسيٍّ يتيمٍ يجلسُ الفنان عليه محاوراً جمهوره بحميمية اللحن والغناء. وهو، في غمرة حماسته هذه، يولي الجمهور كلّ اهتمامه، يحبُ هذا التناغم بينه وبين الجالسين في الصالة، بل يبحثُ عنه بشغف طفلٍ يسألُ الحنان. يريد أن يُفهم، أن يتواصل، أن يأخذ الموجودين في الصالة بإيقاع ألحانه وكلماته إلى تفاصيل كوّنت ماهيته، ورسمت على مرّ السنين ملامحه وخصلات شعره البيض. ولعلّ رغبة التواصل هذه هي التي دفعته إلى افتتاح أمسيته بأغنيةٍ يعبّر فيها عن خشيته ألا يكون عند حسن ظنّ الجمهور، يسأله تفهُّمَ قلقه، شارحاً أنّ موسيقاه هو كلّ ما بوسعه أن يقدّمه له عربون حب. وينتقل الى أغنية"لو ريتال"التي صنعت شهرته في الثمانينات متحدثاً عن جذوره، هو كلود بارزوتي، المولود في شاتولينو في بلجيكا، والمترعرع في أحضان ايطاليا، حبيبته"بعد الموسيقى". ويفعل التفاعل فعله، وفي لحظةٍ يتحول الجمهور المستكين بحراً من الأيادي المتمايلة المصفقة والحناجر الصادحة. يبتسم ابتسامة المنتصر. تدغدغُ النتيجة حواسه فيرنو إلى المزيد، فكاهةً هذه المرّة لا غناءً. يبحث عن منشفته البيضاء الصغيرة التي أحضرها معه لتزيل عن وجهه قطرات الجهد. لا يجدها. يسأل عازف الدرامز مستغرباًً:"ومن قال لك إن الايطالي البارع في الكلام والغناء لا يتصبّب عرقاً"؟ يلتفت الى جمهوره. يعرف هذا الجمهور جيداً، فهي المرة الثالثة التي يزور فيها لبنان:"ليست أول مرة أراكم فيها، أشعر أننا على موعد دائم مع الموسيقى، حبيبتنا المشتركة". والجمهور المعنيّ متنوع الأعمار والأهواء، فبين أفراده ابن السبعين والعشرين على سواء، ولا تقل حماسة السبعيني عن العشرينيّ، ففي لحظاتٍ ليست بقليلةٍ يتخلّى عن وقاره ليصدح صوته مع الأغاني المردَّدة. ويُلهب ساحر الغناء الصالة بأسرها عند أدائه: Mais o est la musique أين هي الموسيقى اليوم؟، و c"est moi qui pars أنا من سيرحل، وAime-moi أحبّيني، معبودة الجماهير في التسعينات. وتنبري الأصوات مطالبةً ب Souvent je pense ˆ vous madame أفكر فيك غالباً سيدتي، وje ne t"ژcrirai plus لن أراسلك بعد اليوم، وprends bien soin d"elle اعتنِ بها جيداً، وPoگte أيها الشاعر... وتكرّ سبحة أغنياتٍ عاطفيةٍ هادئةٍ تارةً وحماسيةٍ راقصةٍ طوراً، كفيلة بإزالة كرب زحمة السير الخانقة التي علقت فيها وأنت في طريقك إلى"كازينو لبنان". وتنتهي الأمسية الحالمة فالپ"السقوف تعبت من الأضواء، والأيادي من التصفيق، والآلات الموسيقية وهنت من اللمس"وفق المغني- الشاعر. وتعود إلى طرقاتٍ وعرةٍ، مقطّعة الأوصال، تذكّرك بضريبةٍ عالية دفعتها بلادك قبل أشهرٍ. تكاد تسمعها تهمس"الموت مرّ من هنا". تغادر المكان وقد قرّرت أن تعيش ليومك كأنك تموت غداً.