توصف حكايات الديكاميرون بأنها"ألف ليلة وليلة الايطالية"، لما بين الحكايات العربية والحكايات الايطالية من تشابه في أسلوب السرد، ومن تأثيراتهما الواضحة على القصص والحكايات الأوروبية والعالمية التي جاءت بعدهما، مثل"حكايات كانتربري"للإنجليزي تشوسر، والحكايات الشعبية الفرنسية مجهولة المؤلف، وقصص الأخوين الألمانيين غريم، والحكايات الخرافية للدنماركي أندرسن، وصولاً الى الحكايات الخرافية التي كتبها هيرمن هيسه في أوائل القرن العشرين. حملت قصص"الديكاميرون"ترجمة: صالح علماني، دار المدى، الى جانب قيمتها الابداعية، وريادتها في التأسيس للقصة الحديثة، أهمية شعبية خاصة في وصولها الى عامة الناس، من كل الطبقات الاجتماعية، على مدى قرون، فكانت البديل الدنيوي والأنسي للروايات المثالية التي تتناول الفروسية والخوارق والخرافات، تلك التي شاعت في عصر جيوفاني بوكاشيو 1313 - 1375. تجاوز بوكاشيو في"الديكاميرون"كتبه الأخرى وعصره، ليكشف عن الوجوه الخفية في الحياة اليومية، في كتاب احتفالي مترف بالحب والمتعة والجمال والبهجة واللوعة والوله والتنكر والسخرية والتهكم والإغواء والمكر والخديعة والمكاشفة، وجدد وأضاف فناً، خطف الأضواء من كتاب أوفيد"فن الهوى"ومن أساطير الحب والجمال عند الإغريق والرومان، ومن مؤلفات معاصريه الذين كان تلميذاً لهم، ومنهم دانتي وبترارك. وتعني"الديكاميرون"باللغة الإغريقية"الأيام العشرة"، وهي الأيام التي قيلت فيها مئة قصة على ألسنة الرواة الشبان، وهم سبع نساء وثلاثة رجال، يحكي كل منهم قصة واحدة كل يوم، بداية من اليوم التالي لرحيلهم من مدينة فلورنسا بعد أن اجتاحها وباء الطاعون الذي قضى على ربع سكان أوروبا عام 1348، وكان من ضحايا لورا الجميلة حبيبة الشاعر بترارك الذي رثاها بلوعة ومرارة. وجاءت فكرة الرحيل عن المدينة من بامبينيا، إحدى الفتيات السبع اللواتي اتفقن أن يصحبهن الشبان الثلاثة لحمايتهن، في رحلة الخروج من أجواء المرض والكآبة والفساد الى الريف والطبيعة المفتوحة، بعيداً عن الكارثة، كما قالت بامبينيا:"فلنخرج من هذا المكان كما فعل كثيرون قبلنا، هرباً من الموت ومن أنماط المعيشة غير الشريفة التي يعيشها الآخرون، ولنذهب للإقامة بصورة شريفة في المزارع الريفية، ففي تلك الأماكن يُسمع تغريد الطيور، وتُشاهد هضاب ومروج خضراء، وتتماوج مثل البحر الحقول المترعة بالزرع الوفير، وبألف من الأشجار، وهناك السماء الفسيحة، مهما اشتد غضبها، لا تحرمنا من بهائها السرمدي". في الريف وجد الرواة العشرة حدائق مزهرة وقصراً بديعاً، وأعدّ لهم مرافقوهم موائد عامرة بالطعام، ومزينة بأكاليل الزهر وكؤوس الفضة وارتاحت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم الى الوجه المشرق للحياة، وسرحوا بين الحدائق، وقرروا تنصيب ملكة أو ملكاً عليهم كل يوم، لإدارة أمورهم واختيار أفضل وسائل الإمتاع والضحك والتسلية، فكانت بامبينيا ملكة اليوم الأول، وهي التي اقترحت عليهم تحديد بعض الساعات في كل يوم لرواية القصص التي تبعد عنهم شبح الكارثة والموت، وهذا ما كانت شهرزاد تفعله في لياليها العربية. في كل يوم تفرض الملكة، أو الملك، موضوعاً خاصاً، تدور حوله القصص التي ستروى، باستثناء اليوم الأول حيث كانت القصص حرة في موضوعاتها، لكنها في اليومين الثاني والثالث اتجهت الى تصوير الشخصيات التي حققت أهدافها بصعوبة في مجتمع تسيطر فيه فئة من كبار التجار، بينما تدور قصص اليوم الخامس حول"الحب الصعب"ذي النهايات السعيدة، بعد أن مرت في اليوم الرابع قصص الحب التراجيدية. وبعد التنويعات الواسعة في القصص التي توالت في تسعة أيام يتبدل الايقاع في اليوم العاشر والأخير لتحمل إلينا موضوعات عاطفية وشاعرية، عن الشرف والبطولة والنبالة والفروسية، في حكايات عن الملكين بيدرو وألفونسو ثم عن السلطان صلاح الدين، وبذلك يبني بوكاشيو جسراً عريضاً بين القرون الوسطى وعصر النهضة، بأسلوبه الذي صقله بكتابة الروايات الغنائية، قبل أن يكتب"الديكاميرون"فقيل عنه"إن بوكاشيو يداعب اللغة كعاشق محب، حتى يمكن القول إن كل كلمة لديه لها حياتها الخاصة، ولا ينقصها سوى بث الروح فيها بالمخيلة". كان بوكاشيو يخوض رهاناً صعباً في حياته، وكان ثمن النجاح صعباً، كما هو في قصصه، فحينما كان تجار فلورنسا يتمتعون بنفوذ واسع في أوروبا، كان والد بوكاشيو وكيلاً لشركة آل باردي، وأراد لابنه أن يكون تاجراً أو محامياً، ولكن موهبته الشعرية وإعجابه بدانتي وبترارك دفعاه الى رفض العمل في التجارة أو المحاماة، وهو يعرف أن الشعر ليس مصدراً للربح، كما ذكر في كتابه"نسب الآلهة الوثنية"، ذلك أن كل الشعراء القدامى والمحدثين كانوا فقراء، من هوميروس وفيرجيل الى دانتي وبترارك، وهم الشعراء الذين كانوا مثله الأعلى وكتب عنهم في"الحظ العاثر للنبيلات والنبلاء المشهورين"، بينما أشار في قصص الديكاميرون الى الرقة الارستقراطية التي تفسدها رذيلة البخل. وفي ذلك القرن ظهرت بوادر تحرر من روايات الفروسية، تمثلت في نزعة طبيعية دنيوية، مصحوبة بمسحة من التشويق من خلال نماذج واقعية حية، تلامس ما يختلج في داخل الشخصيات من مشاعر وأوهام وأحلام وحب وألم. وفي ذلك انتقال من المثالية الارستقراطية الى الواقعية البرجوازية التي تتواصل مع جمهور أكثر اتساعاً، من خلال تناول شخصيات من طبقات اجتماعية متعددة المستويات، دون خوف من كشف المستور من خفايا واقع الحياة الاجتماعية وتناقضاتها. وصل عدد قليل من قصص الديكاميرون الى العربية منذ نهاية العشرينات في القرن الماضي، ولم يكن أكثر المترجمين حريصاً على النص، حيث يبدأ التغيير والحذف من العنوان الى السطر الأخير، ولم يصل إلينا النص كاملاً إلا في هذه الترجمة الكاملة مع مقدمة شاملة عن الديكاميرون وبوكاشيو وعصرهما. أثارت العلاقة الخاصة من التأثر والتأثير والخصوصية الإبداعية والتاريخية بين"الديكاميرون"و"حكايات كانتربري"و"ألف ليلة وليلة"اهتمام المخرج والشاعر بيير باولو بازوليني، فقدمها منذ عام 1970، في ثلاثة أفلام على التوالي، وهي من أجمل أفلامه، وكان فيها مخرجاً وكاتباً وممثلاً، حيث لمع في دور الفنان غيوتو، في احدى القصص التسع التي اختارها من"الديكاميرون