«الديكاميرون» الملحمة الإيطالية التي وضعها جوفاني بوكاتشو (1313 - 1375) وتباهت إيطاليا بها معتبرة إياها صنو «ألف ليلة وليلة» صدرت طبعة جديدة لترجمتها العربية عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة في مجلدين، ونقلها عن الإيطالية عبدالله عبدالعاطي، وعصام السيد. وكتب أستاذ اللغة الإيطالية في جامعة حلوان حسين محمود في تقديمه للترجمة أن «الديكاميرون» تسمية محرفة لعبارة «عشرة أيام» باليونانية، ومدلول التسمية مستمد من ارتباط بوكاتشو وعصره باللغة اليونانية، لتصبح الصيغ، حتى المنحوت منها، صيغاً شعبية، موافقة للذائقة العامة، وهو ما يعكس مدى شيوع النزعة الإنسانية وقوّتها التي تسعى إلى إعادة تبنّي ملامح الثقافة الكلاسيكية، والبحث المحموم عن المخطوطات القديمة، وترجمتها من أية لغة إلى اللاتينية، وفكرياً، هي التي أنزلت الفكر من السماء إلى الأرض، ووضعت الإنسان في مركز الكون. تأثر بوكاتشو بكتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث يلتقي مع شهرزاد في اعتبار الحكي ذاته وسيلة من وسائل الخلاص والنجاة. وكلما زاد الإتقان في الحكاية أصبح أمل النجاة أقرب إلى التحقّق، لأن النجاح في الانعزال عشرة أيام أو ربما أسبوعين، عن مجتمع الوباء، ينقذك مباشرة من الإصابة بالمرض الفتاك. وبالمثل، فإن الليالي الألف التي احتاجتها شهرزاد لتحكي حكاياتها لشهريار، كانت كافية لتنجو وبنات جنسها من الموت على يد الملك. نظَم بوكاتشو الحكايات في ديباجة، ومقدّمة، روى من خلالها قصّة وباء الطاعون الذي اجتاح مدينة فلورنسا، في القرن الثالث عشر الميلادي وبرع في وصفه مجتمع هذه المدينة البورجوازية التجاريّة. كما لمس مَعلماً مهماً من معالم تكوين المدن منذ نشأتها الحديثة الأولى، وبخاصة في ما يتعلق بالقيم؛ فالمدينة بلا قيم، والبورجوازية لا تحمل الأزمات، وتفقد ترابطها كطبقة عندما تتعرّض للضغوط. والحكاية الإطارية مفادها قرار زمرة من الشبان والفتيات، أن تنعزل عن الحياة، وتذهب إلى ضيعة أحدهم أو إحداهن، فراراً من الطاعون الذي اجتاح أوروبا قبيل تأليف بوكاتشو مجموعته القصصية مباشرة. قسَّم بوكاتشو «الديكاميرون» إلى عشر جلسات لرواية الحكايات. في كل جلسة عشر حكايات، تبدأ بمقدمة وتنتهي بخاتمة. وإذا كانت الحكايات عند شهرزاد تنتظم في عقد التشويق، وليس لها في ما عدا التشويق هدف، فإن «الديكاميرون» نظَم «العِشرة» بين «العَشرة»، بحيث ينتخبون كل يوم ملكاً/ ملكة، لاختيار موضوع حكايات اليوم. وجعل بوكاتشو ملوك الحكايات يقرّرون مرّتين (في اليومين الأول والتاسع) أن يكون موضوع الحكايات حرّاً، كما أعطى لأحد أعضاء الزمرة العشرة (ديونيو) ميزة ألا يلتزم الموضوع الذي يحدده الملك. وأعطى هذا البناء مزيداً من الحريّة في اختيار الحكايات وتنوّعها داخل هذا القالب الشديد الانتظام. ولم يلجأ بوكاتشو إلى المعالجات الدينية والأخلاقية في حكاياته، وكان الواقع هو ملهمه الأول والأخير، ومن هذا الواقع «زيف» رجال الدين، الذين اتهمهم بوكاتشو صراحة بالنفاق والرياء، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنهم بلا علاقات حسيّة، بينما هم في الواقع سادرون في هذه العلاقات، وعلى نحو فاسِد ومفسِد. وكتاب «الديكاميرون»، إن تمَّ فهمه في سياقه التاريخي، فهو كتاب مواعظ، ولكنها بالتأكيد ليست مواعظ دينية، وإنما مواعظ عاطفية تنصح المرأة والرجل - على نحو خاص - كيف يمكن أن يكون سلوكهم عند مواجهتهم مشاكلهم العاطفية من دون الدخول في منظومة القيم الأخلاقية والدينية.