أين الحقيقة مما جرى ويجري من صدامات دامية بين أجهزة الأمن المتعددة الولاء في السلطة الفلسطينية التي ذهب بنتيجتها قتلى وجرحى، وتسببت في ارتفاع شدة التوتر والاحتقان الى درجة باتت تلوح جدياً في الأفق نذر حرب اهلية فلسطينية؟ إن الاكتفاء بقراءة المواقف المعلنة من قطبي الصراع فتح وحماس لتبرير ما جرى، بعيد كل البعد عن اعطاء اجابة شافية لتفسير ما حدث ويحدث، ومرشح لأن يستمر، كل طرف يحمل الآخر مسؤولية التصعيد الدموي. رئاسة السلطة الفلسطينية تعتبر ان تراجع"حماس"عن ورقة التفاهم محددات الوفاق الوطني لحكومة الوحدة الوطنية بين عباس وهنية أعاد الأمور الى نقطة الصفر السياسي، وعطل جهود تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتسبب في تفجر الأوضاع التي تعيش حالة غليان بفعل الحصار السياسي والمالي للسلطة الفلسطينية، و"حماس"تتهم رئاسة السلطة الفلسطينية بالضلوع في مخطط للانقلاب على نتائج انتخابات 25/1/2006 التي فازت فيها"حماس"بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، وتتهمها ايضاً بأنها تستجيب للضغوط الاميركية والاسرائيلية والأوروبية. ظاهرياً قد يبدو ان كلا الطرفين يمتلكان حجة منطقية في سوق الاتهامات المتبادلة، لكن بقليل من التدقيق سنكتشف خلاف ذلك. لقد كان من المنطقي ان تصل ورقة المحددات بين محمود عباس واسماعيل هنية الى طريق مسدود، لأنها مثلت خروجاً فاضحاً عن وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني، ولا يمكن لها ان تشكل محل اجماع شعبي ووطني فلسطيني، أو اعتبارها بكل بنودها مجتمعة ترجمة مشتقة من وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني، فهي من حيث الشكل تمثل عودة الى القطبية الثنائية والمنافسة الاحتكارية بين"فتح"و"حماس"، وتشطب دور باقي مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، وتكرس الاحتكار سبب المصائب التي حلت بالعمل الوطني الفلسطيني خلال الأعوام الماضية. وورقة المحددات من حيث المضمون حملت تنازلاً خطيراً من قبل"حماس"حيال اتفاقات اوسلو التي لا تزال محل خلاف وشقاق وطني كبير، فما تضمنه البند الثالث منها يضع عمل حكومة السلطة الفلسطينية برمته تحت سقف اتفاقات اوسلو، والأخطر من ذلك إذا ما كرس سيشكل سابقة تجعل مسعى إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية منضوياً تحت ذات السقف، وهذا ما يريده بالضبط تيار محمود عباس، ودليل ذلك استمراره بتعطيل اللجنة الفلسطينية العليا المكلفة بوضع الآليات لإعادة تفعيل منظمة التحرير وتطويرها، والمنبثقة عن إعلان القاهرة في آذار مارس 2005، بانتظار حسم الاساس السياسي لحكومة الوحدة الوطنية. وهو ما يدفعنا للحكم أن الخلاف المعلن عنه بين"حماس"و"فتح"حول ورقة التفاهم، لا يكشف عن حقيقة الصراع وجوهره، إذ لا يبدو مفهوماً أن تعترض"حماس"على مبادرة السلام العربية المنصوص عليها في البند الرابع من ورقة عباس - هنية كأحد أسس خطة فلسطينية للتحرك السياسي في مواجهة الحلول الإسرائيلية أحادية الجانب، وأن تصمت صمت القبور عن البند الثالث من الورقة ذاتها على خطورته، التي تصل إلى حد سقف النضال الوطني الفلسطيني بالاتفاقات الجزئية الأوسلوية، على رغم وصولها الى طريق مسدود بفعل التعنت الإسرائيلي. وإذا أردنا أن نحاكم المواقف الأخيرة لحركة"حماس"، حتى مع افتراض حسن النيات، لا يمكن تفسير تكتيكاتها سوى بكونها مجرد محاولات التفافية للحفاظ على مصالحها، والتشبث بموقعها في قيادة السلطة ومؤسساتها، بثمن تقديم تنازل لمحمود عباس، الذي لم يكن راضياً عن وثيقة الوفاق الوطني، وأعلن صراحة بعد أيام من توقيعها ضرورة أن تأخذ في الاعتبار الملاحظات الأميركية والأوروبية والمصرية والأردنية التي أبديت عليها، حتى تكون من وجهة نظره قابلة للتسويق، فالرفض الأميركي والإسرائيلي للوثيقة جاء قاطعاً، ولا يترك مجالاً للمناورة. عطفاً على ما سبق، يتشبث عباس باتفاقه مع هنية على ورقة المحددات، لأنه يشكل بالنسبة إليه خشبة الخلاص من التزامات وثيقة الوفاق الوطني المتعارضة مع خياراته وقناعته السياسية. وهنا تجدر الإشارة الى ملاحظة جوهرية، وهي أن البند الثالث من ورقة المحددات بين عباس وهنية يتطابق الى حد بعيد مع البند الثالث من الفقرة الأولى من خطة تفعيل وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في 30/8/2006، وهذه مفارقة مُرّة، إذ كيف يمكن أن نفهم إقدام اللجنة التنفيذية على نقض اساس جوهري في وثيقة الوفاق، ولم يجف بعد حبر التوقيع عليها؟ وهي بفعلها هذا تتحمل المسؤولية الأولى في فتح باب تهرب البعض من نصوص الوثيقة تمهيداً للانقلاب عليها. إن العودة الى وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني بالنصوص التي تم التوافق عليها، والالتزام بالآليات التي تضمنتها للتنفيذ، هما السبيل الوحيد للخروج من حال الاقتتال والاحتراب، ومنع استمرار تعطيل الوحدة الوطنية الفلسطينية نتيجة احتدام صراع القطبية الثانية بين"فتح"و"حماس"، وما بات يشكله من خطر اندلاع حرب أهلية فلسطينية. ومن أجل تحقيق ذلك، على الفصائل والقوى والشخصيات الوطنية الفلسطينية أن تضغط على طرفي القطبية الثنائية المتناحرة، لا أن تصطف الى جانب أي منهما على أساس الموقف من ورقة المحددات بين عباس وهنية، لأن هذه الورقة خصوصاً بندها الثالث بوابة لبحر من الأزمات، وليس كما حاول البعض تسويقها كمخرج من المأزق الراهن الذي تعيشه الحالة الفلسطينية سلطة ومعارضة. * كاتب فلسطيني