ازداد الجدل بين القوى والأطراف العراقية حول مسألة إقامة نظام فيديرالي في العراق. ولعل مصدر هذا الجدل المتصاعد هو اختلاف رؤية هذه القوى للفيديرالية كنظام ومفهوم سياسي، حيث وصل هذا الاختلاف في كثير من جوانبه إلى درجة التناقض. ويمكن تقسيم هذه الرؤى حسب القوى العراقية إلى رؤيتين: الأولى تمثلها القوى المصنفة بالسنية وهي تمثل التيار القومي العربي بتلاوينه المختلفة وترى هذه القوى ان الفيديرالية هي مقدمة لتقسيم العراق إلى دويلات، كما انها ستؤدي إلى إذكاء الصراع الطائفي في البلاد خاصة مع ازدياد مؤشرات حدوث حرب أهلية في ظل العمليات والهجمات التي تسفر يوميا عن مقتل وجرح العشرات وتدمير كبير يطال مختلف المؤسسات العراقية المدنية والعسكرية. والثانية تمثلها القوى الكردية في الشمال كردستان بالدرجة الأولى، والشيعية في الجنوب بالدرجة الثانية، وترى هذه القوى على اختلاف نظرتها إلى الفيديرالية انها تشكل ضمانة لعدم عودة الديكتاتورية وطريقة عقلانية لإدارة البلاد وتوزيع السلطات وممارسة الحكم والديموقراطية وتوزيع الثروات فضلا عن استمرار التجربة السياسية الناشئة في العراق بعد الاحتلال، كما انه يعول عليها في وضع أسس عملية التنمية الشاملة بعيدا عن مفاهيم المركزية التي حصرت السلطات والقرارات بالعاصمة بغداد في المراحل السابقة. في الواقع، ومع المبررات التي يسوقها الطرفان والتي تبدو منطقية لدى الجانبين نظرا لتعقيدات الوضع العراقي وتحمل المشهد السياسي العراقي أكثر من وجه في ظل الاحتلال، فانه يمكن القول ان ثمة عوامل تجعل هذا قابلا للنقاش والحوار على أمل إيجاد نقاط مشتركة يتفق عليها الجانبان من اجل استمرار مسيرة العملية السياسية واستكمال مؤسسات الدولة العراقية شرط التنبه إلى جملة مسائل وبعقل منفتح كي لا تبدو الفيديرالية مجرد فكرة أميركية - إسرائيلية كما يقول البعض من دون ان يعني هذا نسيان مخاطر التقسيم واحتمال اندلاع الحرب الأهلية. ولعل أهم هذه النقاط: 1- ان الفيديرالية تبدو حتى الآن بالنسبة لمنطقتنا فكرة غربية قادمة عبر الأطلسي، أي ان المنطقة تفتقر إلى ثقافة الفيديرالية ومفاهيمها على صعيد الإدارة والحكم وأسلوب التنمية فيما لا تزال الأفكار الايديولوجية سواء القومية أو الدينية الضيقة تتحكم بأنساق التفكير، ولعل هذا ما يدفع بالعديد إلى رفض الفيديرالية من دون التمعن في فوائدها المستقبلية، خاصة ان البعض الآخر يرى ان الفيديرالية لا تعني التقسيم - بل هي أصبحت طريقة وحيدة للمحافظة على العراق وحفظ وحدته الجغرافية بعد ان قطعت الأقاليم العراقية، لا سيما الشمال الكردي أشواطا بعيدة في مجال التأسيس لبنية محلية في الحكم والإدارة، وهؤلاء يستشهدون بتجربة كردستان العراق في التأسيس لمثل هذا الحكم وتحقيق أمن نسبي مقابل الوضع المتفجر في الوسط. 2- ان الفيديرالية كمفهوم تمت الموافقة عليه بموجب استفتاء كما تم إقراره دستوريا ووافقت القوى التي تعترض على الفيديرالية على هذا الدستور، وبالتالي اصبح الرجوع عنه يشكل انتكاسة سياسية للعملية السياسية الجارية ويشرع الباب أمام تعميق الانقسامات السياسية والتدخلات الخارجية، وبالتالي فان الرفض هنا قد يكون مدخلا الى التقسيم، وعليه فان من يرفض الفيديرالية التي أسست دستوريا قد يتسبب بالتقسيم ودفع العراق الى المجهول. 3- ان البحث عن عراق جديد معافى يتعايش فيه الجميع بسلام ووفاق يتطلب الاقتداء بتجارب ناجحة في الحكم والنظام والإدارة والتنمية، وهؤلاء يستشهدون بالتجارب الفيديرالية التي سادت أوروبا مع اختلاف نماذجها والتي حققت في النهاية لأوروبا نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية حققت لدولها المزيد من التقدم. من هذه العوامل السابقة فان السؤال الذي يطرح نفسه، هو لماذا رفض الفيديرالية والنظر إليها كأنها تعني التقسيم لا أكثر؟ إذا كان الجواب هنا ينصب في خانة الإيجابية فان مثل هذه الإيجابية تستند إلى ثلاث مسائل أساسية هي من نتاج الواقع العراقي. الأولى: تعدد مكونات الشعب العراقي، قوميا عرب - أكراد - تركمان - أشوريون، دينيا مسلمون - مسيحيون، وطائفيا شيعة - سنة وبالتالي فمثل هذا التعدد يتطلب نوعا من الإطار القانوني والسياسي لحماية الخصوصية والاستقلالية المحلية أولا، ومن ثم لضمان المشاركة والتمثيل في الحياة السياسية ثانيا، وبالتالي نيل الاهتمام في مجال المشاريع والتنمية والبناء ثالثا. الثانية: ان تجارب الحكم السابقة في العراق التي اتسمت بالمركزية وبحكم الحزب الواحد وصولا إلى دكتاتورية صدام، هذه التجارب وما خلفتها من انقسامات ومآس في مختلف مناطق العراق أدت إلى قناعة لدى معظم القوى العراقية بأن أسلوب الحكم المركزي لم يعد يناسب إدارة الدولة العراقية وأن الفيديرالية كصيغة حكم قد تكون الأنسب لمنع عودة الحكم الدكتاتوري إلى البلاد. الثالثة: البعدان القومي والجغرافي، إذ لا يخفى على أحد ان الإقليم الكردي في الشمال يحظى بخصوصية قومية كردية، وكإقليم فيه شعب كردي له مطالب وحقوق كثيرا ما كانت سببا لحروب وصراعات بين الأكراد والحكومات العراقية المتعاقبة منذ ما قبل استقلال الدولة العراقية وإلى الآن، ويرى الأكراد ان مطالبتهم بالفيديرالية مطلب قديم حيث تم طرحه في المفاوضات التي جرت مع الحكومة العراقية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وقد أقرت اتفاقية 11 آذار مارس عام 1970 بحكم ذاتي موسع هو أقرب إلى الفيديرالية. وانطلاقا من هذه الوقائع أصبحت الفيديرالية صيغة مطروحة من قبل القوى السياسية العراقية بعدما كانت مطلبا كرديا صرفا، إذ تبنى مجلس الحكم الانتقالي الذي تشكل بعد احتلال العراق هذه الصيغة رسميا، ومن ثم أقرها قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي صدر في آذار 2004 وتقول المادة الرابعة منه"إن نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي فيديرالي، يجري فيه تقاسم السلطات بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات". كما أقرت المادة الخامسة من الدستور العراقي الموقت مبدأ الفيديرالية. في الواقع ومع التأكيد ان الفيديرالية أصبحت صيغة توافقية للحفاظ على وحدة الدولة العراقية، إذ بغيرها يبدو ان التقسيم واقع لا محالة، فإن ثمة مخاوف وعقبات تعترض الفيديرالية يمكن إجمالها في نقطتين: 1 - ان هناك اختلافا بين القوى المتفقة على مبدأ الفيديرالية حول طبيعة هذه الفيديرالية، بين الأكراد الذين يطرحونها على أساس قومي جغرافي كصيغة لكيانهم القومي الخاص بهم، وبين الشيعة دعوة عبدالعزيز الحكيم لفيديرالية الجنوب الذين يطرحونها لإدارة الجنوب، وبين بعض القوى العلمانية التي تنظر إلى المسألة من باب إداري لا أكثر فيما تبقى هناك مجموعات رافضة للفيديرالية من الأساس. 2- ان الفيديرالية كصيغة للحكم في العراق تثير مخاوف وحفيظة الدول المجاورة للعراق وبشكل خاص تركيا التي ترى فيها مدخلا لإقامة دولة كردية في العراق ستنعكس بظلالها على أكرادها في الداخل، وعليه فان الموقف الإقليمي بمجمله يأخذ طابع الرفض. من كل ما سبق ينبغي القول ان العقلانية تتطلب التعامل مع الفيديرالية من زاويتين: الأولى باعتبارها تقدم حلا لمشكلة مزمنة هي المشكلة الكردية، والثانية انها تقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة تصعب قيادتها مركزيا. والسؤال إذا كانت الفيديرالية تقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين في العراق وفي الوقت نفسه تشكل طريقة لهدم الجدار الثقيل من الشكوك وسوء الفهم بين الأكراد والعرب، ألا تستحق من الجميع، عراقيين وغيرهم التوقف عندها وإعطاء الفرصة لها بعيدا عن الشعارات الجاهزة التي تساويها بالتقسيم؟ * كاتب سوري