وزير الخارجية يستقبل وزير أوروبا والشؤون الخارجية في الجمهورية الفرنسية    اليوم العالمي للمعلم    الأهلي يُخطط للجمع بين صلاح وفان دايك    هل تهاجم إسرائيل إيران 7 أكتوبر؟    زيلينسكي: سأطرح "خطة النصر" في اجتماع الحلفاء في ألمانيا    ضبط (22094) مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الإدارة العامة للمرور تشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2024    جمعيتي "طويق" و"العمل التطوعي" تحتفلان باليوم الوطني بعشرة أركان تفاعلية    ثاني أكبر روافد نهر الأمازون بالبرازيل يسجل أدنى منسوب للمياه بسبب الجفاف    "سلمان للإغاثة" يدشّن مشروع توزيع المساعدات الغذائية للأسر الأكثر احتياجًا في جمهورية قرغيزستان    يزيد الراجحي يعود إلى رالي المغرب مع طموحات الحفاظ على اللقب    اليوم عرسك    "المركزي الروسي" يرفع سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    رياح مثيرة للأتربة والغبار على الشرقية والرياض والمدينة    إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    العربي يتغلّب على العين بثلاثية في دوري يلو    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    حائل: القبض على شخص لترويجه مادة الحشيش المخدر    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    الشاهي للنساء!    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرم المكي
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 2006

قال الله تعالى في كتابه العزيز:"إنَّ أوّل بيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدًى لِلعالمِيْنَ * فيهِ آياتٌ م بَيِّناتٌ مَّقَامَ إبراهيمَ وَمَنْ دَخَلهُ كانَ آمِناً وَلِلهِِ على النَّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبِيْلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِّيٌّ عَنِ العالمَيْنَ". آل عمران 96-97 صدق الله العلي العظيم.
قال الإمام الطبري:"اخْتَلفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ، فَقَال بَعْضهمْ: تَأْوِيله: إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ يُعْبَد الله فِيهِ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلعَالمِينَ، الذِي بِبَكَّةَ. قَالُوا: وَليْسَ هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الأَرْض، لأَنَّهُ قَدْ كَانَتْ قَبْله بُيُوت كَثِيرَة. وَقَال آخَرُونَ: بَل هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ. ثُمَّ اِخْتَلفَ قَائِلُو ذَلِكَ فِي صِفَة وَضْعه"أَوَّل"، فَقَال بَعْضهمْ: خُلِقَ قَبْل جَمِيع الأَرَضِينَ، ثُمَّ دُحِيَتْ الأَرَضُونَ مِنْ تَحْته. وَقَال آخَرُونَ: مَوْضِع الكَعْبَة، مَوْضِع أَوَّل بَيْت وَضَعَهُ الله فِي الأَرْض.
وَالصَّوَاب مِنْ القَوْل فِي ذَلِكَ: مَا قَال جَل ثَنَاؤُهُ فِيهِ:"إنَّ أوّل بيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدًى لِلعالمِيْنَ"الآية. وَمَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ: أَيْ لِعِبَادَةِ الله فِيهِ مُبَارَكاً وَهُدًى، يَعْنِي بِذَلِكَ وَمَآباً لِنُسُكِ النَّاسِكِينَ وَطَوَاف الطَّائِفِينَ، تَعْظِيماً لِلهِ وَإِجْلالاً له، للذِي بِبَكَّةَ، لِصِحَّةِ الخَبَر بِذَلِكَ عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن المُثَنَّى، قَال: ثنا اِبْن أَبِي عَدِيّ، عَنْ شُعْبَة، عَنْ سُليْمَان، عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرّ، قَال: قُلت يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلّم، أَيّ مَسْجِد وُضِعَ"أَوَّل"؟ قَال:"المَسْجِد الحَرَام"قَال: ثُمَّ أَيّ؟ قَال:"المَسْجِد الأَقْصَى"قَال: كَمْ بَيْنهمَا؟ قَال:"أَرْبَعُونَ سَنَة". فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الخَبَر عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلم، أَنَّ المَسْجِد الحَرَام هُوَ أَوَّل مَسْجِد وَضَعَهُ الله فِي الأَرْض عَلى مَا قُلنَا، فَأَمَّا فِي وَضْعه بَيْتاً بِغَيْرِ مَعْنَى بَيْت لِلعِبَادَةِ وَالهُدَى وَالبَرَكَة، فَفِيهِ مِنْ الاخْتِلاف مَا قَدْ ذَكَرْت بَعْضه فِي هَذَا المَوْضِع...
قال الطبري:"وَأَمَّا قَوْله: للذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً فَإِنَّهُ يَعْنِي للبَيْت الذِي بِمُزْدَحَمِ النَّاس لِطَوَافِهِمْ فِي حَجّهمْ وَعُمَرهمْ. وَأَصْل البَكّ: الزَّحْم، يُقَال مِنْهُ: بَكَّ فُلان فُلاناً: إِذَا زَحَمَهُ وَصَدَمَهُ، فَهُوَ. يَبُكّهُ بَكّاً، وَهُمْ يَتَبَاكَّوْنَ فِيهِ: يَعْنِي بِهِ: يَتَزَاحَمُونَ وَيَتَصَادَمُونَ فِيهِ، فَكَانَ بَكَّة:"فَعْلة"مِنْ بَكَّ فُلان فُلاناً: زَحَمَهُ، سُمِّيَتْ البُقْعَة بِفِعْلِ المُزْدَحِمِينَ بِهَا. فَإِذَا كَانَتْ بَكَّة مَا وَصَفْنَا، وَكَانَ مَوْضِع اِزْدِحَام النَّاس حَوْل البَيْت، وَكَانَ لا طَوَاف يَجُوز خَارِج المَسْجِد، كَانَ مَعْلُوماً بِذَلِكَ أَنْ يَكُون مَا حَوْل الكَعْبَة مِنْ دَاخِل المَسْجِد، وَأَنَّ مَا كَانَ خَارِج المَسْجِد فَمَكَّة لا بَكَّة، لأَنَّهُ لا مَعْنَى خَارِجه يُوجِب عَلى النَّاس التَّبَاكّ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيْناً بِذَلِكَ فَسَاد قَوْل مَنْ قَال بَكَّة: اِسْم لِبَطْنِ مَكَّة، وَمَكَّة: اِسْم لِلحَرَمِ".
أمن البيت وأمانه
وَاخْتَلفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالى:"وَمَنْ دَخَلهُ كَانَ آمِناً"، فَقَال بَعْضهمْ: تَأْوِيله الخَبَر عَنْ أَنَّ كُلّ مَنْ جَرَّ فِي الجَاهِلِيَّة جَرِيرَة ثُمَّ عَاذَ بِالبَيْتِ لمْ يَكُنْ بِهَا مَأْخُوذاً. وَقَال آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ يَدْخُلهُ يَكُنْ آمِناً بِهَا، بِمَعْنَى الجَزَاء، كَنَحْوِ قَوْل القَائِل. مَنْ قَامَ لِي أَكْرَمْته: بِمَعْنَى مَنْ يَقُمْ لِي أُكْرِمهُ. وَقَالُوا: هَذَا أَمْر كَانَ فِي الجَاهِلِيَّة، كَانَ الحَرَم مَفْزَع كُلّ خَائِف، وَمَلجَأ كُلّ جَانٍ، لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ يُهَاج لهُ ذُو جَرِيرَة، وَلا يَعْرِض الرَّجُل فِيهِ لِقَاتِلِ أَبِيهِ وَابْنه بِسُوءٍ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الإِسْلام، لأَنَّ الإِسْلام زَادَهُ تَعْظِيماً وَتَكْرِيماً. وَقَال آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلهُ يَكُنْ آمِناً مِنْ النَّار. فَإِنْ قَال قَائِل: وَمَا مَنَعَك مِنْ إِقَامَة الحَدّ عَليْهِ فِيهِ؟ قِيل: لاتِّفَاقِ جَمِيع السَّلف عَلى أَنَّ مَنْ كَانَتْ جَرِيرَته فِي غَيْره ثُمَّ عَاذَ بِهِ، فَإِنَّهُ لا يُؤْخَذ بِجَرِيرَتِهِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اِخْتَلفُوا فِي صِفَة إِخْرَاجه مِنْهُ لأَخْذِهِ بِهَا، فَقَال بَعْضهمْ: صِفَة ذَلِكَ مَنْعه المَعَانِي التِي يُضْطَرّ مَعَ مَنْعه وَفَقْده إِلى الخُرُوج مِنْهُ. وَقَال آخَرُونَ: لا صِفَة لِذَلِكَ غَيْر إِخْرَاجه مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَ إِخْرَاجه مِنْ المَعَانِي التِي تُوَصِّل إِلى إِقَامَة حَدّ الله مَعَهَا، فَلِذَلِكَ قُلنَا: غَيْر جَائِز إِقَامَة الحَدّ عَليْهِ فِيهِ إِلا بَعْد إِخْرَاجه مِنْهُ. فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الحَدّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لا خِلاف بَيْن الجَمِيع فِي أَنَّهُ يُقَام عَليْهِ فِيهِ الحَدّ، فَكِلتَا المَسْأَلتَيْنِ أَصْل مُجْمَع عَلى حُكْمِها عَلى مَا وَصَفْنَا.
حكمُ العَائِذ بِالبَيْتِ
فَإِنْ قَال لنَا قَائِل: وَمَا دَلالتك عَلى أَنَّ إِخْرَاج العَائِذ بِالبَيْتِ إِذَا أَتَاهُ مُسْتَجِيراً بِهِ مِنْ جَرِيرَة جَرَّهَا أَوْ مِنْ حَدّ أَصَابَهُ مِنْ الحَرَم جَائِز لإِقَامَةِ الحَدّ عَليْهِ وَأَخْذه بِالجَرِيرَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ الله عَزَّ وَجَل قَدْ جَعَل مَنْ دَخَلهُ آمِناً، وَمَعْنَى الآمِن غَيْر مَعْنَى الخَائِف، فِيمَا هُمَا فِيهِ مُخْتَلِفَانِ؟
قِيل: قُلنَا ذَلِكَ لإِجْمَاعِ الجَمِيع مِنْ المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلمَاء الأُمَّة، عَلى أَنَّ إِخْرَاج العَائِذ بِهِ مِنْ جَرِيرَة أَصَابَهَا أَوْ فَاحِشَة أَتَاهَا وَجَبَتْ عَليْهِ بِهِ عُقُوبَة مِنْهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الإِخْرَاج لأَخْذِهِ بِمَا لزِمَهُ، وَاجِب عَلى إِمَام المُسْلِمِينَ وَأَهْل الإِسْلام مَعَهُ. وَإِنَّمَا اِخْتَلفُوا فِي السَّبَب الذِي يُخْرَج بِهِ مِنْهُ، فَقَال بَعْضهمْ: السَّبَب الذِي يَجُوز إِخْرَاجه بِهِ مِنْهُ تَرْك جَمِيع المُسْلِمِينَ مُبَايَعَته وَإِطْعَامه وَسَقْيه وَإِيوَاءَهُ وَكَلامه وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ المَعَانِي التِي لا قَرَار لِلعَائِذِ بِهِ فِيهِ مَعَ بَعْضهَا، فَكَيْفَ مَعَ جَمِيعهَا؟ وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَل إِخْرَاجه لإِقَامَةِ مَا لزِمَهُ مِنْ العُقُوبَة وَاجِب بِكُلِّ مَعَانِي الإِخْرَاج. فَلمَّا كَانَ إِجْمَاعاً مِنْ الجَمِيع عَلى أَنَّ حُكْم الله - فِي مَنْ عَاذَ بِالبَيْتِ مِنْ حَدّ أَصَابَهُ أَوْ جَرِيرَة جَرَّهَا - إِخْرَاجه مِنْهُ لإِقَامَةِ مَا فَرَضَ الله عَلى المُؤْمِنِينَ إِقَامَته عَليْهِ، ثُمَّ اِخْتَلفُوا فِي السَّبَب الذِي يَجُوز إِخْرَاجه بِهِ مِنْهُ كَانَ اللازِم لهُمْ وَلإِمَامِهِمْ إِخْرَاجه مِنْهُ بِأَيِّ مَعْنًى أَمْكَنَهُمْ إِخْرَاجه مِنْهُ حَتَّى يُقِيمُوا عَليْهِ الحَدّ الذِي لزِمَهُ خَارِجاً مِنْهُ إِذَا كَانَ لجَأَ إِليْهِ مِنْ خَارِج عَلى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْل.
وَبَعْد: فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَل لمْ يَضَع حَدّاً مِنْ حُدُوده عَنْ أَحَد مِنْ خَلقه مِنْ أَجْل بُقْعَة وَمَوْضِع صَارَ إِليْهَا مَنْ لزِمَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَظَاهَرتِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّهُ قَال:"إِنِّي حَرَّمْت المَدِينَة كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيم مَكَّة". وَلا خِلاف بَيْن جَمِيع الأُمَّة أَنَّ عَائِذاً لوْ عَاذَ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ بِحَرَمِ النَّبِيّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يُؤَاخَذ بِالعُقُوبَةِ فِيهِ.
وَلوْلا مَا ذَكَرْت مِنْ إِجْمَاع السَّلف عَلى أَنَّ حَرَم إِبْرَاهِيم لا يُقَام فِيهِ عَلى مَنْ عَاذَ بِهِ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ حَتَّى يَخْرُج مِنْهُ مَا لزِمَهُ، لكَانَ أَحَقّ البِقَاع أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ فَرَائِض الله التِي أَلزَمَهَا عِبَاده مِنْ قَتْل أَوْ غَيْره، أَعْظَم البِقَاع إِلى الله كَحَرَمِ الله وَحَرَم رَسُوله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ، وَلكِنَّا أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِ مَنْ أمَرنَا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَرَم الله لإِقَامَةِ الحَدّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْل الأُمَّة ذَلِكَ وِرَاثَة.
فَمَعْنَى الكَلام إِذْ كَانَ الأَمْر عَلى مَا وَصَفْنَا: وَمَنْ دَخَلهُ كَانَ آمِناً مَا كَانَ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَنْ لجَأَ إِليْهِ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ عَائِذاً بِهِ، فَهُوَ آمِن مَا كَانَ بِهِ حَتَّى يَخْرُج مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَصِير إِلى الخَوْف بَعْد الخُرُوج أَوْ الإِخْرَاج مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ غَيْر دَاخِله، وَلا هُوَ فِيهِ.
إن الله تعالى قد جعل أوّل بيوت العبادة في الأرض قبلةً لخيرِ أمّةً أخرجت للناس، وربطَ بالبيت العتيق قلوبَ المؤمنين الذين خدموا البيتَ الحرام بناءً وترميماً وتجديداً وتوسعةً حيثُ كان البيتُ الحرام منذ نشوئه ومازال موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات، إذ اهتمَّ به آدمُ عليه السلام، و بعدما أتى عليه الطوفان أعاد بناءه أبو الأنبياء إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ عليهما السلام. ومرت السنون فجدّده قصيّ بن كلاب، ثم أعادت قريشٌ بناءَه قَبْل البعثة بخمس سنوات عندما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخامسة والثلاثين من عُمره، وفي عهده صلى الله عليه وسلمَ استقبل المسلمون البيتَ الحرامَ في صلواتهم بعد استقبالِ بيتِ المقدس، ومنذ تحويل اتجاه القبلة حتى الآن والمسلمون يستقبلونه في صلواتهم من النواحي والاتجاهات كافة.
بدأت توسعات بيت الله الحرام في خلافة عمرَ بنِ الخطاب، وأمر بالتوسعة الثانية الخليفة الراشدُ عثمانُ بن عفان، ثم أُنجزتِ التوسعةُ الثالثة بأمر عبدِالله بنِ الزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين، وفي عهد الخلافة الأموية أعاد الحجاجُ بن يوسفَ الثقفيِّ بناءَ جدارِ الكعبة الشمالي المجاور لِحِجْرِ إسماعيل عليه السلام، وذلك بأمرِ الخليفة عبد الملك بن مروان بن الحكم، ثم تتابع اهتمام الخلفاء الأمويين بالحرمين الشريفين وبيت المقدس.
جاءت توسعةُ الخليفةِ العباسي أبي جعفر المنصور سنة مئة وسبعٍ وثلاثين للهجرة/ 755 م، حيث شُيدتٍ المنارةُ الأولى، وتضاعفت مساحةُ المسجد الحرام، ثم تمت توسعتا المهدي العباسيِّ، ورُبِّعَ صحنُ المسجد الحرام بإشرافه، وأضيفتْ ثلاثُ منائرَ، وتتابع اهتمام الخلفاء العباسيين بالحرمين الشريفين، ومن ذلك أعمالُ الخليفةِ العباسي المستنصرِ بالله سنةَ ستِّ مائةٍ وإحدى وثلاثين للهجرة/ 1233 م، كما أهتمَّ بالبيت الحرام خلفاءُ المسلمين وملوكُهم وسلاطينُهم وأولو أمورِهم، وتتابعت أعمالُ الصيانة والترميم والزخرفة، وتجديدِ المنابر والمحاريب والأبواب والأعمدة التي مازال الكثيرُ منها في متحفِ الحرمين الشريفين، يشهدُ بفضل أولي الفضل واهتمامهم ببيت الله الحرام.
داهمَ مكةَ المكرمة سيلٌٌُ جارفٌ في 19 شعبان سنةَ ألفٍ وتسعٍ وثلاثين للهجرة 4 نيسان إبريل سنة 1630م، وأتى ذلك السيل على كثير من بيوت مكة المكرمة، وهدمَ معظمَ أجزاء البيت الحرام فأمر بتجديده الخليفةُ العثماني مرادُ الرابعُ"فجُدِّدَ سنة 1040 ه/ 1631م، وكانت مدة خلافة مراد الرابع من سنة 1032 ه/ 1623م"حتى وفاته سنة 1049 ه/ 1640م. وما زالت قباب توسعة الخليفة مراد الرابع قائمة وهي التي تحيط بالكعبة المشرفة من جميع الجهات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.