يحفل التاريخ المصري بالعديد من المصادر الوثائقية المخطوطة التي تكشف عن أحداثه، وتعد مخطوطة" تاريخ البطاركة"لساويرس ابن المقفع الكتاب: تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادي حتى نهاية القرن العشرين، للمؤلف ساويرس ابن المقفع، تحقيق: عبدالعزيز جمال الدين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006 أكبر هذه المخطوطات من حيث الفترة التاريخية التي تغطيها، فهي المخطوطة الوحيدة التي تغطي تاريخ مصر منذ ما قبل الاحتلال الروماني من بدايات القرن الأول الميلادي على وجه التقريب وحتى عهد الملك فؤاد في بدايات القرن العشرين. وعلى رغم ذلك فإن معظم مؤرخي مصر يتجاهلونها بسبب ندرتها بين يدي الباحثين وبسبب ظن من يسمعون عنها أنها تاريخ للكنيسة المصرية فقط غير مدركين للرصد التاريخي لوقائع مصر الكثيرة. استكمل المحقق في موسوعته هذه أحداث القرن العشرين حتى نهايته، وزودها بالملاحق العديدة وأضاف من الكتب التراثية متابعات موازية للأحداث الواردة بالمخطوط من أجل المقارنة والدراسة، إلى جانب الكثير من اللوحات والخرائط لنستكمل بها رؤية تاريخنا. ونظراً لأن المخطوط يبتدئ بالقرن الأول الميلادي فقد وضع المحقق في الجزء الأول من الموسوعة تمهيداً تاريخياً عن حكم الاحتلال الروماني، وكذلك وضع مصر الفريد وقتها، والموقف الديني للرومان فيها قبل ظهور المسيحية. يبدأ المخطوط بتقديم من مؤلفه ألحقه بمقدمة تاريخية عن"قصة السيد المسيح"وسيرة ماري مرقس واستشهاده، وتراجم للبطاركة الأوائل حتى البطرك رقم 38 بنيامين الذي كان بطركاً بين عامي 622-661م، وعاصره غزو العرب مصر. ويبدو من التراجم التي وضعها ساويرس في هذا الجزء وكذلك الأجزاء التالية، أنها كانت بمثابة حوليات للكنيسة المصرية ودفاعاً عنها ضد المذاهب المخالفة داخلياً وخارجياً، فهو داخلياً يذكر صراع البطاركة ضد المذاهب الدينية المخالفة وأصحابها بخاصة أورجانس وسابليوس وبولس السميساطي، وماني، وملينيوس، أريبوس مكدونيوس، نسطور، أوطاخي. أما الصراعات الخارجية للكنيسة المصرية فقد خاضتها في المجامع المسكونية بخاصة في نيقيا 325، ومجمع افسس، وهذا يوضح مدى عمق الصراعات الفكرية والدينية في مصر والعالم وقتها، ولهذا فقد زود المحقق هذا الجزء بالكثير من الهوامش والملاحق الإضافية حول الإمبراطور قسطنطين وارتباطه بالمسيحية، والمسألة الدوناتية، وحول الاحتلال البيزنطي لمصر والجدل حول طبيعة المسيح، وقيام الرهبنة والديرية، والاحتلال الفارسي لمصر، ثم عودة الاحتلال البيزنطي فغزو العرب مصر عام 640م، وكيفية معاملتهم المصريين من النواحي المادية والسياسية والاجتماعية. وأشار ساويرس في تاريخه إلى الرخاء في مصر، كما فصل الكلام عن القحط والوباء والمجاعات في بعض السنين، بل أنه يهتم بهذه الظواهر التي ترد في حوليات الكنيسة المصرية أكثر من اهتمام سائر المؤرخين بها، وينفرد بذكر بعض المجاعات التي لم يرد ذكرها لدى غيره من المؤرخين المصريين. ولا شك في أن ساويرس يشترك مع بقية المؤرخين في ذكر كل الأحداث المهمة مع العناية بشؤون مصر على غرار المؤرخين المصريين مسلمين كانوا أم مسيحيين، لكنه يمتاز عليهم جميعاً بأن كتابه له قيمة الحوليات، والمذكرات، والمصادر المعاصرة، في وقت نتلمس فيه المصادر المعاصرة للغزو العربي لمصر وما بعد الغزو بحوالى قرنين ونصف من الزمان فلا نكاد نجدها إلا في بعض الأوراق البردية، وكتاب"التاريخ"للمؤرخ حنا أسقف نقيوس الذي توفي في القرن السابع الميلادي. ولعل من أهم الأمور التي انفرد ساويرس ببيانها أو توضيحها بحكم تأريخه للبطاركة وللكنيسة وللأقباط، ما كتبه عن مركز المصريين في ظل السلطة الإسلامية من الناحية الاجتماعية، ومدى تمتعهم بالحرية الدينية، وقيامهم بشعائرهم، والاحتفال بأعيادهم، وبناء أو تجديد كنائسهم، وعلاقة المصريين بالمسلمين في مصر وفي غيرها من البلدان، وموقفهم من الحكومات الإسلامية المتعاقبة في مصر. كذلك أفاض في حديثة عن نشر الإسلام في مصر بل أنه في بعض الأحيان يعطينا أرقاماً بعدد الذين تحولوا إلى الدين الإسلامي في ظل الظروف الاقتصادية القاسية تخلصاً من الجزية. وبين أن كثيراً من المصريين أسلموا ليتخلصوا من الجزية والضرائب المفروضة عليهم، كما يذكر أن المصريين الذين بقوا على دينهم قاموا بمقاومة سلبية ضد الحكومة، تنطوي على الهروب من مكان إلى مكان، وهجر الأراضي الزراعية. والواقع أن ساويرس هو المؤرخ الوحيد الذي كتب وفصل لنا الكلام على حركة الهروب، تلك الحركة التي تنطوي على مقاومة المصريين لسلطة العرب مقاومة سلبية بعدما أصبح الالتجاء إلى الأديرة، لا يعفيهم من الالتزامات المالية منذ خلافة عبدالملك بن مروان وولاية أخيه عبدالعزيز على مصر. وما لا شك فيه أن الأمثلة التي يوردها ساويرس، والتي تبين أن الأقباط الأغنياء ضجوا من الجزية والضرائب كما ضج الفقراء، تظهر أن الجزية كانت المورد الرئيس للمال الذي تعنى به السلطة الإسلامية، وأنها كانت أمراً ثقيلاً، ولم تكن بالضريبة الهينة وإلا لما أجبرت الكثيرين على التخلي عن دينهم. ويشير الجزء الثاني إلى أن ثورات المصريين تعددت وشملت الوجهين البحري والقبلي، وكانت أعنف هذه الثورات تلك التي كان يقوم بها أهل البشمور أو البشرود، وهي المنطقة الساحلية بين فرعي دمياط ورشيد. ولقد ظل المصريون الأقباط يقومون بالثورة بعد الأخرى طوال القرن الثامن الميلادي، وكانت سلطة العرب تقابل تلك الثورات بالعنف والقتل والتشريد. وكان يتبع إخماد تلك الثورات في العادة تحول عدد كبير من الأقباط إلى الدين الإسلامي خوفاً من الإبادة وتخلصاً من الجزية. وكان أضخم هذه الثورات وأعظمها ثورة البشمور، تلك التي انتهت في بداية القرن التاسع الميلادي 832م بمجيء الخليفة المأمون وإبادته الثائرين. ونعرف مما كتبه ساويرس أنه كانت هناك مساجلات دينية في بلاط الخليفة الفاطمي المعز لدين الله 363 - 365ه - 973 - 975م للمناظرة والتحدث في الأديان السماوية الثلاثة والمفاضلة بينها، وكان ساويرس نفسه ممن جادل شيوخ المسلمين واليهود في بلاط المعز انظر قصة نقل جبل المقطم. ونلاحظ أن ساويرس يعنى بالتأريخ للإسكندرية عناية خاصة، وليس هذا بمستغرب فالإسكندرية كانت مقراً لبطركية الأقباط، ولذا نراه يسميها في معظم الأحيان المدينة العظمى. ويذكر ساويرس أن الإسكندرية كانت تعرف باسم مدينة قيسرون ويقول أيضاً أنها تسمى مديني أمون. ويؤكد في مناسبات مختلفة وما نستشفه من سائر المصادر بأن الإسكندرية كانت منذ العهد البطلمي حتى عصر الأخشيديين تعتبر في معظم الأحيان جزءاً مستقلاً عن مصر حتى في القضاء. وبهذه المناسبة عندما وصل إلى الأمير أحمد بن طولون تقليد بولاية جميع أعمال مصر من الخليفة العباسي، يذكر ساويرس أن هذا الأمر كان بخلاف ما جرت به العادة فإنه لم يكن بين والي الإسكندرية ووالي مصر معاملة ولا خطاباً بل كانا يتهادان الهدايا فيما بينهما وكانا من تحت سلطان واحد. ومن الأمور التي يوضحها ساويرس وتساعدنا على فهم الوضع الحقيقي للمجاعات ما يذكره عن الشدة العظمى التي حدثت أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمي الشدة المستنصرية. فذكر المؤرخون المصريون مثل ابن ميسر، والمقريزي، وأبي المحاسن ابن تغري بردي، أن الشدة العظمى كان سببها انخفاض ماء النيل وانتشار الوباء في مصر حتى انعدمت الغلات من أرض مصر وأكل الناس البغال والحمير والميتة ثم أكل بعضهم بعضاً . ولكن مؤرخ البطاركة يبين أثر القلاقل والفتن في إيجاد هذه الشدة، فقد عمت الفوضى والحروب بين الجند وبخاصة بين السودانية والأتراك، فكانت القاهرة في يد الجند الترك، وكان الصعيد في يد السودانية، وكانت الإسكندرية وجزء كبير من الدلتا في يد فريق آخر من الجند التركية تساعدهم قبائل قيس ولواتة. ويبين ساويرس تسلط اللواتيين، وهم قبائل بربرية الأصل، على الريف ويذكر أنهم ملكوا أسفل الأرض أي الوجه البحري، واصبحوا يزرعونه كما يريدون بلا خراج ولم يهتموا بحفر الترع أو عمل الجسور وانفردوا بالزراعة دون غيرهم وامتنعوا عن بيع الغلات، وكانت النتيجة أن رزئت مصر بفترة مجاعة قاربت من السبع سنين وعرفت بالشدة العظمى 1066 - 1082م. واستطاع بدر الجمالي الأرمني والي عكا الذي استدعاه الخليفة المستنصر لتولي الوزارة في مصر، أن يقبض على ناصية الحال فيها فأباد اللواتيين من الريف، وسار إلى الصعيد ففتحه ثم عاد إلى مصر وأقام بها ورتب الأمور فيها كما كانت عليه في السابق. وحين يحدثنا ساويرس عن الصليبيين وحروبهم في الشرق لا يعتبر أن هذه الحروب حرب بين المسيحية والإسلام، وإنما ينظر إلى الصليبيين كغزاة أعداء للشرق. ويعلق على امتلاكهم بيت المقدس بأن الأقباط اليعاقبة سوف لا يستطيعون الحج لاختلافهم والصليبيين في المذهب الديني، على رغم أن ذلك لم يمنع السلطات الإسلامية من اضطهادهم تحت دعوى أنهم عملاء للصليبيين. وفي هذا الجزء أضاف المحقق عدداً من الملاحق والهوامش المهمة حول ولاة مصر من عمرو بن العاص حتى بداية الطولونيين، كذلك حول علاقات بيزنطية والمسلمين بين عامي 717-867م. والعلاقة بين مماليك جنوب مصر والكنيسة المصرية، والصراع بين الأمويين والعباسيين على مصر وموقف المصريين من ذلك. ونظم حكم العرب والعباسيين لمصر إلى جانب مطالعات في الفكر الإسلامي من العصرين الأموي والعباسي، وعلاقات مصر والنوبة عبر التاريخ. أما الجزء الثالث من المخطوط فيتناول تراجم البطاركة من خايال الثاني 849-851م إلى يوحنا 1189-1216م حاوياً الكثير من أحداث تاريخ مصر خلال حكم الطولونيين والأخشيديين والخلافة الفاطمية التي استقلت بمصر عن بقية العالم الإسلامي بخاصة العباسي في الشرق والأموي في المغرب والأندلس. ثم سقوط الفاطميين واستحواذ صلاح الدين الأيوبي مصر وتطورات الحروب الصليبية. وقيام سلاطين المماليك. هذا إلى جانب الكثير من الهوامش والملاحق التي أضافها المحقق حول: علاقة الروم بالمشرق من عام 856 إلى 1222م . والولاة الطولونيين والإخشيديين، وحوليات تاريخية من عام 871 إلى 1106م. ومصر من حكم الطولونيين حتى نهاية حكم المماليك، إلى جانب علاقات مصر الخارجية في عصر الأخشيديين. والنشاط الاقتصادي في مصر سلاطين المماليك، ونظم حكمهم المصريين، والحياة العامة في المدن، كذلك المجاعات والطواعين والتعامل مع المصريين الأقباط وحياتهم الاجتماعية والدينية. والحملات الصليبية منذ بدايتها حتى نهايتها. كذلك العلاقات المصرية - الحبشية بخاصة في ظل حكم المماليك. ويغطي الجزء الرابع من الموسوعة الفترة التاريخية الممتدة من عام 1216م. حتى نهاية القرن العشرين. وهي بذلك تتناول نهايات الحروب الصليبية خصوصاً سقوط دمياط في يد الفرنجة عام 1219م. كذلك حملة لويس التاسع سنة 1220م. ومعركة المنصورة في 7 نيسان إبريل 1250 وحروب التتار في الشام. وسقوط السلطنة المملوكية الثانية على يد الغزو العثماني بشنق طومان باي عام 1517م. وتوسعات السلطنة العثمانية في مصر والشام والعراق وفارس. كذلك يتناول أحداثاً تقليدية مثل الزلازل والمجاعات والاضطهادات ونهب السلطة أموال المصريين بزيادة الجزية عليهم. حتى وصل بهم الأمر إلى الانتحار. كما يتناول المخطوط بعض الأمور الكنسية في ذلك الوقت والخاصة باختيار البطرك ابن لقلق. ومحاولات الأساقفة وضع لائحة موحدة للكنيسة. وكذلك فساد العربان في الأقاليم ونهبهم المصريين. كما كشف المخطوط عن التحالفات التي كانت تتم بين الأمراء الصليبيين والمسلمين ضد بعضهم البعض. وأحوال المصريين اليهود. والخيانات والصراعات داخل البيت المملوكي، هذا إلى جانب الكشوف الأثرية التي كانت تتم بالصدفة في هذا الوقت. كما يذكر المخطوط دخول الحملة الفرنسية مصر وخروجها وحكم محمد علي مصر، ويستمر في ذكر تاريخ مصر وحكامها من أسرة محمد علي حتى الملك فؤاد، حيث يتوقف المخطوط، ما استدعى أن يقوم المحقق باستكمال تراجم البطاركة حتى البابا شنودة القائم حالياً على رأس الكنيسة القبطية المصرية.