شهدت مدينة الفسطاط أول عاصمة لمصر بعد الفتح الاسلامي، تعايشاً سلمياً بين النصارى واليهود والمسلمين، وتشهد على ذلك وثائق الجنيزة اليهودية التي عثر عليها في هذه المدينة وهي لا يزال قسم كبير منها باقياً الى اليوم، وكذلك هذا العدد من الكنائس الذي ضمته وقد لا يتناسب مع عدد الأقباط الذين كانوا يعيشون فيها وأيضاً الانتعاش الاقتصادي الذي اتاحته لليهود والأقباط على السواء حتى صار بعضهم يمارس نشاطاً تجارياً دولياً. وتميزت الفسطاط، بوجود كنائس عدة متجاورة، تمثل فيها الطراز المعماري القبطي الواضح في بناء الكنيسة، الذي اشتق جوهره من عناصر التخطيط البازيليكي. وانفردت كنائس الفسطاط التي يقع بعضها داخل حصن بابليون والآخر شماله وجنوبه بجودة عمارتها بين الكنائس المصرية عموماً. أما الكنائس التي تقع داخل حصن بابليون فهي كنائس: القديس سرجيوس وواخيس، والمعروفة بكنيسة أبي سرجة، والمعلّقة والقديسة بربارة والسيدة العذراء المعروفة بقصرية الريحان. وكنائس شمال الحصن هي كنيسة أبي السيفين وكنيسة الأنبا شنودة وكنيسة العذراء الدمشيرية. وكنائس جنوب الحصن هي كنيسة بابليون الدرج وكنيسة أباكير ويوحنا وكنيسة الأمير تادرس المشرقي. يمكن تقسيم الطراز المعماري لهذه الكنائس الى نوعين، الأول منها تميز بوضوح جوهر العناصر الأساسية للتخطيط البازيليكي المستطيل الشكل الذي يتكون من الواجهة الرئيسية، ثم يليها دهليز المدخل المستعرض، فالأروقة الرأسية وفي النهاية الشرقية من البناء هياكل الكنيسة بوحداتها، أو عناصرها المعمارية الثابتة في الكنيسة القبطية، ويشمل هذا النوع الأول، كنائس كبيرة من طبقتين هي: أبي سرجة والمعلّقة وبربارة والأنبا شنودة وأبي السيفين وبابليون الدرج. ويشمل هذا النوع الأول أيضاً كنيسة العذراء الدمشيرية وكنيسة أباكير ويوحنا، وتميزتا بصغر مساحتيهما واشتمال كل منهما على طبقة واحدة، بالاضافة الى بساطة عمارتيهما. أما النوع الثاني فهو الكنائس ذات التخطيط المربع، مع استخدام القباب والأقبية في غطية بعض الأجزاء المعمارية وتشمل كنائس هذا النوع كنيسة السيدة العذراء المعروفة بقصرية الريحان وكنيسة الأمير تادرس الشرقية. كنيسة أبي سرجة: تقع هذه الكنيسة وسط حصن بابليون الروماني تقريباً، ويُدخل اليها حالياً من حارة نسطورس الضيقة وسط مجموعة كبيرة من المساكن الصغيرة المتاخمة، والتي تفصلها عن الكنيسة حارات ضيقة في الجهات الغربية والشرقية والشمالية، وتنخفض هذه الكنيسة، عن مستوى أرضية الحارة، والتي تؤدي إليها بمقدار 103 سم، أي يُهبط إليها عبر قالب من السلالم الحجرية، يتقدمها سياج حديدي. وتاريخ هذه الكنيسة على جانب كبير من الاهمية، إذ اتخذت تسميتها من اسم قديسين لهما شهرة كبيرة في تاريخ الاستشهاد الديني المسيحي في أوائل القرن الرابع الميلادي وهما القديسان سرغيوس وواخيس اللذان استشهدا، في منطقة الرصافة في سورية، لاعتناقهما الدين المسيحي في فترة عهد الامبراطور الروماني مسكيمانوس. تبوأت هذه الكنيسة، مكانة دينية خاصة، بين الكنائس القبطية نظراً لارتباطها به بقصة مجئ السيدة العذراء والسيد المسيح الطفل ويوسف النجار، في رحلة الهروب من وجه هيردوس ملك اليهود، واحتمائهم بالمغارة، التي تقع أسفل الكنيسة. يذكر المقريزي هذه الكنيسة في قوله: "كنيسة بو سرجة، بالقرب من بربارة بجوار زاوية ابن النعمان، فيها مغارة يقال إن المسيح وأمه مريم عليهما السلام جلسا بها". على أن هده الكنيسة تعرضت للتلف، بسبب النيران التي اندلعت في مدينة الفسطاط في أواخر العصر الأموي، فأصابت مبانيها بأضرار، ثم أعيد تجديدها، في خلافة هارون الرشيد، إذ ورد في سيرة الأنبا مرقس 799 -819م في تاريخ البطاركة إعادة بناء كل كنائس المنطقة في ذلك الوقت، بناء على طلب هذا البطريرك من الوالي. كما جُدّدت عمارتها أيضاً في خلافة العزيز بالله الفاطمي، حين سمح للبطريرك أفراهام، بتجديد كل بيع مصر، أورد ذلك ساويرس وأبو صالح، كما أعيد تجديد عمارتها أو ما تشعث منها في خلافة الظاهر لا عزاز دين الله. ولهذه الكنيسة كذلك من الناحية الدينية أهمية خاصة عند أقباط مصر، إذ كان يتم فيها انتخاب بطاركة الكرسي المرقسي، حتى القرن الثاني عشر الميلادي، نذكر منهم على سبيل المثال البطريرك شنودة 850-861م والبطريرك أفراهام 948-968م، كما كان يتم بها رسامة بعض كبار رجال الدين من الأقباط. كنيسة المعلّقة: تعرف هذه الكنيسة بالمعلّقة، وذلك لبنائها على برجين من أبراج الحصن الروماني. ولهذه الكنيسة أهمية دينية، إذ كان في فترات كثيرة من العصر الاسلامي يتم فيها رسامة البطاركة، وكانت تعقد فيها الاحتفالات الدينية المسيحية الكبيرة، ويحاكم فيها بعض الخارجين على الطقوس الكنسية. وانعكست هذه الأهمية الدينية على عمارة الكنيسة وزخارفها حتى أن المقريزي حين ذكرها في خططه قال: "كنيسة المعلقة بمدينة مصر القديمة في خط قصر الشمع، على اسم السيدة العذراء، وهي جليلة القدر عندهم". تجددت عمارة هذه الكنيسة على مر العصور الإسلامية، حتى أعيد تجديد عمارتها في نهاية القرن الثامن عشر على يد المعلم العبيد أبي خزام عام 1775م كما هو مدّون على حجاب معمودية الكنيسة. وكان لأحد أثرياء القبط دور كبير في إعادة تجديد وترميم الكنائس والأديرة المصرية وبخاصة كنائس منطقة مصر القديمة، وهوا لمعلم ابراهيم الجوهري، الذي كان يشغل منصب رئيس كتب البر المصري، وقام ثري قبطي آخر بتجديد هذه الكنيسة مرة أخرى، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. تعتبر هذه الكنيسة من الناحية المعمارية، غاية في الأهمية، رغم أنها جُددت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك أن الطراز القبطي واضح فيها تماماً، وإن كان التجديد اختلف بها عن بعض الأجزاء الأولى للكنيسة، فقد أضيفت الى الكنيسة ثلاثة أجزاء معمارية، خارج حدود بناء الكنيسة نفسها، وحتى يتم الوصول إليها- وذلك في التجديد الذي تم في القرن التاسع عشر. الكنيسة مستطيلة الشكل تقع واجهتها في الضلع الغربي، وتتكون الواجهة من طبقتين وتتقدمها فسقية مياه، أمامها ثلاثة عقود مدببة، محمولة على أربعة أعمدة رخامية، يكتنفها من الناحيتين الشمالية والجنوبية حجرتان، فيهما سلالم حجرية تؤدي الى الطبقة الثانية، وواجهة الطبقة الاولى للكنيسة، على رغم انها حديثة، إلا أنها موشاة بالزخارف النباتية والهندسية والكتابية على غرار زخارف العصرين المملوكي والعثماني. وفي هذه الواجهة مدخلان متماثلان يحصران بينهما، تجويفاً نصف دائري، على ارتفاع الأبواب الجانبية نفسه. ويتم الدخول الى الكنيسة من المدخل الجنوبي حالياً. ولاحظ الدكتور مصطفى شيحة، أن هذه الكنيسة هي الوحيدة بين كنائس الفسطاط التي تضم ثلاثة صفوف من البائكات، كما لا يوجد فيها أيضا دهليز المدخل أو البلاطة المستعرضة والتي يتم الدخول منها الى أروقة الكنيسة. ويوجد اختلاف في تماثل صفوف البائكات من حيث عدد الأعمدة فيها إذ توجد في الصفين الشمالي والجنوبي ثمانية أعمدة رخامية، تقوم عليها ثمانية عقود، إلا أنه يعلو البائكة الشمالية، ثماني نوافذ مستطيلة الشكل ذات شبابيك، بعضها من الخشب الخرط والآخر من الجص والزجاج الملون. أما صف البائكات الأوسط فيتكون من ثلاثة عقود كبيرة مدببة الشكل، تحملها ثلاثة أعمدة رخامية ودعامة صليبية الشكل في الناحية الشرقية. وتغطي الأروقة الثلاثة الرئيسية للكنيسة، أقبية نصف دائرية من الخشب، فتحت في سمت كل منها ثلاث نوافذ مستطيلة ذات شبابيك من الزجاج الملون. أما الرواق الشمالي فيغطيه سقف مستوٍ من الخشب ويوجد منبر الكنيسة في الناحية الشمالية الشرقية من الرواق وهو قطعة فنية مصوغة بدقة ومهارة، إذ أنه مصنوع من الرخام، المزين بقطع صغيرة من الفسيفساء، ويرتكز على خمسة عشر عموداً. تنتهي الأروقة الثلاثة الرئيسية، في الناحية الشرقية، بثلاث حجرات متصلة، يفصلها عن الأروقة أحجبة خشبية على صف واحد. أما الرواق الشمالي فينتهي بحجرة مستطيلة الشكل أشبه بدهليز صغير، ويغطيه سقف سطح من الخشب. أما الطبقة الثانية للكنيسة، ومن المعتاد فيها وجود ثلاثة دهاليز، تعلو أروقة البازيليكا، باستثناء الناحية الشرقية، التي توجد بها حنية الكنيسة الرئيسية، فلا توجد في هذه الكنيسة، باستثناء الجانب الغربي، حيث يوجد دهليز يطل على الرواق الأوسط بواسطة عقدين كبيرين على شكل نصف دائري. ويغطي هذا الدهليز سقف مستوٍ من الخشب. على أن هذه الكنيسة الكبيرة تتميز أيضاً بوجود كنيسة أخرى صغيرة في الناحية الجنوبيةالشرقية منها. وهذه الكنيسة في الحقيقة هي عبارة عن هياكل عدة مقامة على أرضية البرج الروماني، ويدخل إليها من خلال مدخل يقع وسط الضلع الجنوبي للكنيسة الرئيسية. والكنيسة مقسمة الى مساحتين الأولى مستطيلة الشكل. في الناحية الشرقية منها توجد حجرة مستطيلة، في ضلعها الشرقي تجويف كبير، أما القسم الثاني فتوجد به معمودية الكنيسة وهي من حجر الغرانيت". كنيسة أبي السيفين: تقع هذه الكنيسة شمال حصن بابليون وتحمل اسم الشهيد القديس مورقوريوس المعروف بأبي السيفين، وكان ضابطاً في الجيش الروماني واعتنق المسيحية، واستشهد بسبب ذلك في العام 365م، بدأت هذه الكنيسة صغيرة على شاطيء النيل في الفسطاط، إلا أنها هدمت واستخدمت مساحتها لتشوين القصب، ثم جُددت في العصر الفاطمي في خلافة العزيز بالله، وقام بتجديد عمارتها البطريرك أفرام السرياني، من ثروة الشيخ أبي اليمن قزمان بن مينا. وتعرضت هذه الكنيسة للتلف في حريق الفسطاط في العام 564ه- 1168م حتى أن أبا صالح الأرمني يذكر "أنه لم يبق منها سوى جدرانها الخارجية وكنيسة لطيفة بداخلها لم تُحرق وهي كنيسة يوحنا المعمدان، وصار القداس مستمراً فيها الى أن رسم للنصارى بتجديد عمارة البيعة المذكورة، وأعاد عمارتها الشيخ أبو البركات بن أبي سعيد هيلان في العام 1176م، وأعاد تجديدها بعد ذلك الشيخ أبو الفضائل بن فروج". وألحقت بهذه الكنيسة كنيسة صغيرة تحمل اسم يوحنا المعمدان تضم ثلاثة هياكل صغيرة. كنيسة الأنبا شنودة: تحمل هذه الكنيسة اسم القديس شنودة، وهو من أشهر قديسي الكنيسة القبطية، وتذكر عنه المصادر التاريخية التي تناولت سيرة حياته انه كان يتمتع بعلم كهنوتي واسع. وتعرضت هذه الكنيسة، شأن معظم كنائس الفسطاط لأعمال تجديد لعل من أهمها ما جرى خلال سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، في عهد البطريرك بنيامين الثاني 1319-1322 وأجرت لجنة حفظ الآثار العربية عليها كثيراً من اعمال الترميم والتجديد على غرار أصول عمارة الكنيسة الأولى منذ العام 1935م وحتى العام 1942م. كنيسة القديسة بربارة: تأسست هذه الكنيسة في أواخر القرن الرابع أو اوائل القرن الخامس الميلادي وكرست باسم السيدة بربارة التي ولدت في القرن الثالث الميلادي من أسرة غنية وثنية، واعتنقت الدين المسيحي على يد العلامة المصري أويغانس، فغضب والدها من ذلك وقتلها. وتهدمت الكنيسة في القرن العاشر الميلادي، وأعاد بناءها، هي وكنيسة أبي سرجة، يوحنا بن الآيح أو الآمح، والذي يُروى أنه كانت له حظوة عظيمة عند أحد الخلفاء الفاطميين، فاتهمه حساده بالخيانة، ولما تحقق الخليفة من عدم صحة ذلك أجابه الى طلبه إعادة بناء كنيسة أبي سرجة. وبعد أن بناها بقي من الأدوات ما يكفي لبناء كنيسة أخرى، فأعاد بناء كنيسة بربارة من دون تصريح من الخليفة، فشكاه أعداؤه إليه ولما تحقق الخليفة من الأمر حكم عليه بهدم إحدى الكنيستين فصار ينتقل من الواحدة الى الأخرى ليختار واحدة منهما غير مستقر على حال، ولما أعياه التعب سقط ميتا. فبلغ الخليفة ما حدث، فأمر بترك الكنيستين وقال عبارة نصها: "أنا أمرت ببناء واحدة، والأخرى دية له". ومن حُسن الحظ العثور على باب الكنيسة القديم، وعلى أحجبة خشبية تحتوي على زخارف نباتية وهندسية، وكذلك زخارف لكائنات حية ومناظر آدمية وحيوانية وأشكال طيور. وتعتبر هذه أروع فنون العصر الفاطمي. وهي محفوظة حالياً في المتحف القبطي. تخطيط الكنيسة يتكون من مستطيل وارتفاعها يبلغ قرابة خمسة عشر متراً. وتعد كنيسة بربارة من أجمل كنائس الفسطاط، وتقع هياكلها في القسم الشرقي منها، وتفصل صحن الكنيسة عن الجناحين القبلي والبحري وعن الجانب الغربي المقابل للهياكل ثلاثة صفوف من الأعمدة الرخامية. ويغطي صحن الكنيسة والهيكل الأوسط سقف "جمالوني" الشكل، وتحتوي الكنيسة على منبر مماثل لمنبر كنيسة أبي سرجة، إذ يتكون من مقصورة مستطيلة الشكل محمولة على عشرة أعمدة رخامية صغيرة. ومما يلفت في كنيسة القديسة بربارة الاشغال الخشبية، وخصوصاً حجاب الهيكل الأوسط، فهو مطعم بالعاج وفبه "أويمة" دقيقة ويعود تاريخه اعتماداً على الأسلوب الزخرفي الى قرابة القرن الثالث الميلادي. وفيه مداخل الهيكل الأوسط يوجد المذبح وخلفه مدرج زُيّن أعلاه بالفسيفساء. ويوجد أمام حجاب الهيكل المنبر الرخامي السالف الذكر.