دخل "السودان" نطاق التأليف الجغرافي والرحلي العربي. منذ القرن التاسع الميلادي، والذي كان بحق عصر انبثاق الجغرافية العربية، حيث جُمعت فيه الوقائع التجريبية التي حصل عليها الرحالة اثناء تجوالهم في افريقية السوداء، كرحلة السيرافي 368ه - 979م الى شرق افريقيا، الى ما يسمى خليج سفالة - الزنج، أو رحلة برزك بن شهريار على طول شواطئ افريقيا الشرقية وسواحل بحر العرب وحول سفالة الزنج زنجبار او ساحل موزمبيق وقام الأسواني حوالى 359ه/ 969م - 363ه/ 973م برحلته الشهيرة الى بلاد النوبة وعند قبائل البجة، مبعوثاً للقائد الفاطمي جوهر، ونقل المقريزي عنه - فيما بعد - ما اختبره هناك. كما ان هناك رحلة الوراق - ابو عبدالله محمد بن يوسف 363ه - 973م الافريقية، التي ضاعت بعد ان دونها، ولم يبق سوى ما اقتبسه منها ابو عبيد البكري 487ه - 1094م في كتابه"المسالك والممالك، ولخص ابن عذارى بعض رسائله في"البيان"المغرب. وتحدث المقدسي الرحالة والجغرافي الكبير عن تجارة شرق افريقيا، وعن النيل، وعن الرحلة الأسطورية لرجل من بني العيص بحثاً عن منابع النيل، وبعض الملاحظات العامة عن بلاد السودان، والطرق الصحراوية المتجهة إليها. ولعل المسعودي 346ه - 959م اول جغرافي عربي ناقش العوامل المؤثرة في مناخ الأقاليم على طريقة الكتب الجغرافية الحديثة، وبالتالي ناقش المواضيع والأماكن الافريقية السوداء في إطار هذا الفهم، إضافة الى العامل السلالي والموقع الفلكي لمناطق السودان، وتحدث عن دور المناخ في الأقاليم، وقد جاب بلاد السودان والحبشة، وفي بعض المناطق التي يسكنها الزنج، فوصف حياتهم وتقاليدهم، وأفاض في وصف حيواناتهم التي تختلف عن مثيلتها في ديار الإسلام، وأشار الى زغاوة، والكانم، وأهل غانة، والدمادم، وبلاد الزنج. ولقد تحدث عن مناقب السودان وعن البحر الحبشي وبلاد الزنج، وطرح تخيلاته عن اقصى جنوب القارة السوداء وجزيرة القمر مدغشقر وجزيرة قنبلو، ولم يوفر الحديث عن عجائب بلاد السودان، والنيل ومنابعه ومجراه، وبلاد النوبة والبجة، والذهب والزمرد والتجارات. وشهد القرن الحادي عشر رحلة ابن فاطمة، الذي لا نعرف عنه سوى ما تناقله الآخرون عنه، أبحر على طول الساحل الغربي لإفريقيا حتى بلغ مصب نهر السنغال الذي كان الجغرافيون العرب يعتقدون انه متصل من طريق نهر النيجر بحوض نهر النيل، ويضمون إليه بحيرة تشاد كوري، ولقد بلغ ابن فاطمة سفالة الزنج في شرق افريقيا، وعرف جزيرة مدغشقر جزيرة القمر، وربما تعود إليه الرواية hglilm التي قدّمها ابن سعيد المغربي المتعلقة باستيطان الهنود في تلك الجزيرة ويدل كلامه على علم دقيق بأحوال افريقيا السوداء وأهلها، وقد كان رحالة جواباً للآفاق، طاف في ترحاله سواحل شرق افريقيا ووصل الى الصومال والحبشة، وأوغل في داخل القارة، ورأى منابع النيل وتحدث عنها على انها تتكون من مجموعتين من الأنهار تتألف كل منها من خمسة أو أربعة فروع تصب في بحيرة، ثم تتفرع من تلك البحيرة انهر خمسة الى ان تتلاقى ببحيرة اخرى رئيسة. ولا يفوتنا ذكر الرحالة الأندلسي الكبير الغرناطي محمد بن عبدالرحيم، امتلك جرأة غير مسبوقة في اقتحام المجهول من البلاد، انتقل من الأندلس الى آسيا عبر افريقيا الشمالية، واجتاز جنوبروسيا وحوض الفولغا وشرق أوروبا، وأقام في هنغاريا، ثم اتجه الى بلاد السودان في غرب افريقيا، وخلط في رواياته بين الحقائق والتخيلات والعجائب فتم على يديه الرجوع الى التقليد الذي بدأه ابن الفقيه، وهو ما نجده في وصفه لأهل غانا وعاداتهم وصورهم، كما يصف مروره على قوقو كوكو ومالي وغدامس، عارجاً على امم السودان في شرق افريقيا، وقد ضمّن ذلك كله في كتابه الأهم"تحفة الألباب ونخبة الأعجاب". ولعل أبرز الرحالة الذين جابوا بلاد السودان مخترقين مجاهل الصحراء الكبرى هما ابن بطوطة 565ه - 1170م، والحسن الوزان المعروف بپ"ليون الافريقي"ت 958ه - 1556م، لا يدانيه في رحلاته ماركو بولو بدأ رحلته الى شرق افريقيا من طنجة وهو في الثانية عشرة من عمره عام 1324م قاصداً الحج، فعندما وصل عدن ركب البحر الى زيلع ثم أبحر الى الصومال فزار مقديشو، حيث نزل ضيفاً على علمائها ومشايخها، وتعرّف إلى كلوة، بعدها عاد مبحراً باتجاه الهند والصين ماراً بسيراف. أما رحلته الى غرب افريقيا"بلاد السودان"فقد بدأها عام 1352 بتكليف من السلطان ابو العنان، ماراً بسجلماسة، اذ خرج على رأس قافلة تجارية قاصداً مدينة ايوالاتن ولاتة اول مدن السودان الغربي، ثم مدينة هالي أكبر مدن السودان آنئذ، فوجد الطريق اليها غاصاً بالأشجار. ثم زار زاغة وتمبوكتو. وفي طريق عودته التي بدأت في 12 ايلول سبتمبر 754ه - 1353م قاسى من صعوبة الطريق بضعة اشهر في صحبة قافلة تجار الرقيق، الى ان بلغ فاس نهاية عام 754ه - 1353م. لقد ترك لنا ابن بطوطة عبر روايته لحوادث رحلته صورة حية أخاذة عن حياة من زارهم من السودان في غرب افريقيا وشرقها وفي الصحراء الكبرى، وقدم شهادة تنبض بالحياة عن سكان بلاد مالي السود وعلاقاتهم بالجالية العربية هناك، وبما سمعه عن اهل لم لم الذين يسميهم نيام نيام، فقد انشغل بالبشر انفسهم وطريقتهم في الحياة، وبالظواهر الاجتماعية والعادات والتقاليد وأشكال العبادات وطقوسها، والغريب والمألوف منها، اضافة الى الاطعمة". اما الحسن الوزان ليون الافريقي الذي عاش في القرن السادس عشر، في غرناطة، وسرعان ما هاجر الى فاس، فدخل في خدمة الملوك المرينيين، وأخذ يتجول في النواحي الافريقية في مهمات رسمية وسفارات في بلاد السودان، مخترقاً الصحراء الكبرى، ثم، في طريق عودته من رحلته الى القسطنطينية 1518م وقع في أيدي قراصنة ايطاليين في البحر المتوسط، وقدمه هؤلاء هدية الى البابا ليون العاشر الذي كان راعياً للعلوم والآداب، فكشف مواهب الوزان، وتحت ضغطه ومناشدته اعتنق الوزان النصرانية، فسماه البابا"جيوفاني ليوني"فاشتهر في اوروبا باسم"ليون الافريقي". وفي ايطاليا درّس العربية في البلاط البابوي، الى ان هرب الى تونس، ليقضي فيها بقية عمره في التعبد، في زوايا النسيان. اما كتابه الفريد"وصف افريقيا"الذي سجل فيه وقائع رحلاته في القارة السوداء فقد كتبه بالعربية ثم ترجمه الى الايطالية، وبعدها ترجم الى لغات اوروبية عدة، وصل عدد صفحات كتابه ذاك الى ثمانمئة صفحة تقريباً، موزعاً على تسعة اجزاء، في الجزء الاول يعطينا صورة عامة عن افريقيا: ممالكها وسكانها وأصولهم وتوزيع قبائلهم ولغاتهم، والامراض المستوطنة فيهم، فيظهر في تأليفه شعور واضح بوحدة القارة السوداء سلالياً وجغرافياً. ويخصص الاجزاء الرابع والخامس والسادس لمملكة تلمسان وطرابلس. اما الجزء السابع فيتحدث فيه عن ممالك السودان الخمس عشرة الواقعة في مملكة النيجر التي تجول فيها في صباه وشبابه برفقة عمه، بما فيها تمبوكتو، او في رحلته الثانية التي تعرّف فيها مجدداً إلى تمبوكتو، وزار بلاد الهوسة، ومملكة غانا وماني. اما الجزء التاسع والاضخم من كتابه فيخصصه للحديث عن حيوانات ونباتات القارة، وقد اعتمد في معلوماته تلك على مشاهداته العيانية من خلال رحلاته، وعلى معلومات مستقاة مما قرأه من مصنفات عربية، او ما سمعه من الثقات الذين عرفهم. * كاتب سوري