سوف نتناول في عرضنا هذا تأثير الحضارة العربية الإسلامية في السودان الغربي - حوضي نهري السنغالوالنيجر المعروفين باسم الساحل والحوض - حيث تعاقبت مملكتا غانا ومالي في الفترة ما بين القرنين الرابع الهجري/العاشر الميلادي والثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي. لقد شهد السودان الغربي غرب أفريقيا بداية تأثيرات الحضارة العربية الإسلامية منذ أن توطد الحكم العربي في الشمال الأفريقي، أي منذ مطلع القرن الثامن للميلاد. وظلت هذه التأثيرات في ازدياد بفضل نشاط التجار المغاربة عبر الصحراء الكبرى، إذ كان لنشاطهم واستقرارهم أكبر الأثر في انتشار الإسلام بين قبائل الصحراء الكبرى، وفي الجهات التي ارتادوها من اقليم السودان الغربي. ومما يجدر التنويه به أن المصادر العربية - كتب الجغرافيا والرحلات وكتب الطبقات والتراجم - هي المصادر المكتوبة الوحيدة المتوافرة عن تاريخ السودان الغربي في القرون الوسطى، ذلك لأن قبائل السودان الغربي لم تكن تعرف الكتابة آنذاك. وهذه المصادر هي في حد ذاتها مساهمة عربية كبيرة في ميدان الحضارة. ان أهم هذه المصادر ما صنفه ابن حوقل القرن العاشر الميلادي، وأبو عبيد البكري القرن الحادي عشر، والشريف الإدريسي القرن الثاني عشر، وياقوت الحموي وابن سعيد المغربي القرن الثالث عشر، وابن بطوطة وابن فضل الله العمري وابن خلدون القرن الرابع عشر، والقلقشندي القرن الخامس عشر، والحسن الوزان المعروف بليون الافريقي القرن السادس عشر. ومن أهل السودان الغربي ذاته عبدالرحمن السعدي صاحب "تاريخ السودان"، ومحمود كعت صاحب "تاريخ الفتاش"، وقد عاشا في القرن السابع عشر، والفقيه العالِم أحمد بابا التنبكتي الذي عاش في أوائل القرن السابع عشر. هذا فضلاً عما تتضمنه كتب الطبقات والتراجم، والتي برع فيها أهل المغرب والأندلس، من نُتفٍ قيمة عن اتصال فقهاء المسلمين وتُجارهم ببلاد السودان الغربي. ومما ينبغي تأكيده ان انتشار الإسلام في السودان الغربي لم يتمَّ عن طريق افتتاح المسلمين لهذا الإقليم، بل تم سلمياً عن طريق التجار المسلمين - من المغرب خصوصاً - الذين كانوا يتوافدون على أطراف السودان الغربي بقصد التجارة، حيث أقاموا أسواقاً ومراكز يتبادلون فيها السلع مع أهل السودان. وكان الإسلام ينتشر على أيديهم، لا عن طريق التبشير بل عن طريق الاحتكاك والمَثَل، خصوصاً بين الملوك ورجال ممالكهم من الوثنيين. كما أن قيامَ دولة المرابطين في غرب الصحراء الكبرى في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي - وهي دولة قائمة على الجهاد ونشر الإسلام - كان له أثره كذلك في نشر الإسلام في منطقة الصحراء الكبرى الغربية، وبين السودان في حوض نهر السنغال وأعالي نهر النيجر. ثم ان السودان، وقد اعتنق ملوكهم والكثيرون من رعيتهم الدين الإسلامي، اضطلعوا هم أنفسهم بنشر الإسلام في أوطانهم بعد المرحلة الأولى من انتشاره في السودان الغربي. ان انتشار الإسلام في السودان الغربي كان عاملاً من عوامل الوحدة بين قبائله، كما أن الفوارق العرقية والقبلية في هذه المنطقة الشاسعة أضعف من حدتها انتشار الإسلام واللغة العربية كلغة التعليم والثقافة في معاهد المدن السودانية، كتنبكتو وجني، وكلغة التأليف في المواضيع الفقهية والتاريخية. لقد كان لانتشار الإسلام والثقافة الإسلامية الفضل في حل مشكلة داخلية كبرى طالما واجهت ممالك السودان الغربي، ألا وهي مشكلة القبلية والولاء القبلي، فعمد السلاطين المسلمون الى اقامة ادارات مركزية لا تقوم على أساس القرابة أو القبيلة، ومع ازدياد عدد المدارس الإسلامية ظهرت الى حيز الوجود فئةٌ من المثقفين اعتمد عليها السلطان في تنظيم ادارته. كانت ثمة أربع طرقٍ رئيسيةٍ للقوافل من بلدان المغرب عبر الصحراء الكبرى: أولاها تُحاذي ساحل المحيط وتنتهي في السنغال تكرور وسِلَّى، والثانية من سجلماسة بجنوب المغرب الأقصى مارةً بتغازة وتنتهي في أودغست عند الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى، وطريق ثالثة كانت تبدأ من تاهرت حاضرة الرستميين وتنتهي إما في تغازة وأودغست وإما في تادمكة المعروفة اليوم بالسوق ومنها الى جاو/كوكو Gao عند منحنى نهر النيجر، وأما الطريق الرابعة فكانت تبدأ من افريقيا القيروان أو طرابلس الغرب وتمر بغدامس وتادمكة وتنتهي عند نهر النيجر أو في كانم مارةً بفزان. وعن طريق هذه المسالك كان ذهب السودان الغربي يصل الى المغرب، ومنه الى بقية أنحاء العالم الإسلامي وأوروبا. وكان هذا الذهب مصدر رخاء وازدهار لكثير من الدول التي قامت في حواضر المغرب، كسجلماسة وتاهرت والقيروان ومراكش، وكذلك في الأندلس. كانت السلع الرئيسية التي تنقلها القوافل الى السودان الغربي تشمل الحبوب والتمور والأقمشة والمصنوعات المعدنية والجلدية وصنوفاً من النظم من الزجاج والأصداف، والخواتم والقطران والأخشاب والعطور، والملح الذي كان السودان في أمسِّ الحاجة اليه. يذكر العُذري مدينة شاطبة بشرق الأندلس، والتي اشتهرت بصناعة الكاغد وتصديره، فيقول ان التجار يتجهزون فيها "بالأمتعة الى غانا وبلاد السودان، والى جميع بلاد المغرب". ويذكر الإدريسي، وهو من أبناء سبتة، ان بمدينة سبتة سوقاً "لتفصيل ]المرجان[ وحكه وصنعه خرزاً وثقبه وتنظيمه... وأكثر ما يحمل الى غانا وجميع بلاد السودان لأنه في تلك البلاد يُستعمل كثيراً". وكان التجار المغاربة يستبدلون هذه السلع بغلات السودان، وهي الذهب والعاج والأبنوس، إلا أن السلعة الرئيسية كانت تبر الذهب في حوض نهر السنغال. وكانت التجارة بين المغرب والسودان الغربي قائمة على نطاق واسع، حتى ان نظام الصكوك استُحدث تيسيراً للعمليات التجارية. يقول ابن حوقل: "ولقد رأيت بأودغست صكاً في ذكر حق لبعضهم على رجل من تجار أودغست، وهو من سجلماسة بإثنين وأربعين ألف دينار. وما رأيت ولا سمعت بالمشرق لهذه الحكاية شبيهاً، ولقد حكيتها بالعراق وفارس وخراسان فاستطرفت". وتُلقي كتب الطبقات والسير ضوءاً على موضوع تجارة القوافل واتصال المغاربة ببلاد السودان منذ وقت مبكر. ففي كتاب "المعيار المُعرب" للونشريسي فتويان للفقيه القيرواني البارز القابسي/ابن القابسي ت403/1012 فيهما دلالةٌ ثابتةٌ على قيام تبادل تجاري منذ أواخر القرن العاشر الميلادي بين أفريقيا البلاد التونسية وبلاد السودان، التي كان ما يزال معظم سكانها من الوثنيين. وتتناول الفتوى الأولى موضوع قراض commenda تم في القيروان مع شخص توجه الى تادمكة، ومنها الى غانا وأودغست، حيث تزوج ورزق أطفالاً، وغاب عن وطنه احدى عشرة سنة، وكان عليه دينٌ في بلده، وبعد وفاته باع القاضي ممتلكاته، فتقدم صاحب القراض يطالب بحقه كدائن. وتدور الفتوى الثانية حول نزاعٍ بشأن ميراث لتاجرٍ من افريقيا توفي في بلاد السودان من دون أن يترك وصية. ويذكر ابن الصغير المالكي أن أفلح صاحب تاهرت أوفد في القرن الثالث الهجري سفارةً الى "ملك السودان" على رأسها محمد بن عرفة. كما يذكر صاحب "رياض النفوس" زنجيات ممرضات في دمنة القيروان على عهد الأغالبة. ومما يذكر أن أبا يزيد مخلد بن كيداد الثائر على العُبيديين في افريقيا في منتصف القرن العاشر الميلادي كان يشار اليه بالحبشي الأسود، إذ ولد لتاجر من منطقة الجريد بأفريقيا من جارية سودانية في تادمكة أو كوكو - Gao. كما أن مؤسس دولة بني مدرار بسجلماسة كان من أصل سوداني. ان كل ذلك يدل على اتصال المغاربة ببلاد السودان منذ وقت مبكر، وتزاوجهم مع أهلها. الإسلام في غانا وتكرور كانت مملكة غانا القديمة تشمل المنطقة الواسعة عند الطرف الجنوبي من الصحراء الكبرى، الى الشمال مباشرةً من أعالي نهري السنغالوالنيجر، فهي تبعد نحو خمسمئة ميل الى الشمال الغربي من أقرب نقطة عند حدود دولة غانا الحديثة، التي اتخذت اسمها منها، بوصفها أعرق ممالك السودان الغربي. ان المعلومات المتوافرة لدينا عن مملكة غانا القديمة التي بلغت أوجها في القرن العاشر الميلادي مستمدة مما كتبه الجغرافيون العرب، خصوصاً ابن حوقل والبكري، وكان الإسم "غانا" يطلق على الملوك، وكذلك على البلاد وعاصمتها. وقد اندثرت مدينة غانا، إلا أن الحفريات اهتدت الى موقع الحي الإسلامي منها في كمبي - صالح بجنوب موريتانيا وعثر فيه على حجارةٍ عليها كتابات عربية تتضمن آيات من القرآن الكريم. كان رخاء مملكة غانا يقوم بالدرجة الأولى على سيطرتها على تجارة الذهب، ولذلك عرفت ببلاد الذهب. يقول ابن حوقل: "وغانا أيسر من على وجه الأرض من ملوكها بما لديهم من الأموال المدخرة من التبر المُثار... وحاجتهم الى ملوك أودغست ماسةٌ من أجل الملح الخارج اليهم من ناحية الإسلام، فإنه لا قَوام لهم إلا به". إن أوفى المعلومات عن مملكة غانا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي هي تلك التي أوردها أبو عبيد البكري الذي فرغ من تأليف كتابه القَيِّم "المسالك والممالك" سنة 460/1068، وهو وإن لم يبرح موطنه الأندلس، إلا أنه استمد معلوماته عن حاضرة غانا من التجار المغاربة الذين عرفوا المدينة جيداً بحكم ترددهم عليها. يقول البكري: "ومدينة غانا مدينتان سهليتان إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجداً، أحدها يجمعون فيه، ولها الأئمة والمؤذِّنون والراتبون، وفيها فقهاء وحملة علم... ومدينة الملك على ستة أميال من هذه وتسمى بالغابة... وفي مدينة الملك مسجدٌ يصلي فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس حكم الملك... وتراجمة الملك من المسلمين، وكذلك صاحب بيت ماله وأكثر وزرائه". من هذا يتبين أن الملك وغالبية رعيته كانوا من الوثنيين، وأن الملك كان متسامحاً مع المسلمين بحيث أذِنَ لهم ببناء مدينة خاصة بهم وفيها مساجدهم، كما أنه اعتمد على المسلمين في إدارة مملكته. ويتحدث البكري عن مثول الرعية أمام الملك في غانا فيقول "فإذا دنا أهل دينه منه جثوا على ركبهم ونثروا التراب على رؤوسهم، فتلك تحيتهم له، وأما المسلمون فإنما سلامهم عليه تصفيقاً باليدين". بيَّنت الحفريات في أودغست وجود علاقات بينها وبين العبيديين بأفريقيا. فقد عثر على ثلاثين قطعة بلورية كلها بأسماء الخلفاء الفاطميين، ويرجع تاريخ القطعة الأولى منها الى عهد عبيد الله المهدي النصف الأول من القرن العاشر، ويرجع تاريخ القطعة الأخيرة منها الى أوائل القرن الحادي عشر. إن تحول العبيديين من أفريقيا الى مصر لم يكن لأسباب اقتصادية، إذ بتحولهم فقدوا نظاماً اقتصادياً قائماً بين المغرب والسودان، ولم يعد ذهب السودان يصل الى مصر الفاطمية، مما اقتضى إقامة نظام اقتصادي جديد. الى الغرب من مدينة غانا كانت مدينة تكرور ومنها اشتُقت التسمية Tokolor في اللغات الأوروبية التي كانت تقع عند المجرى الأدنى لنهر السنغال، غير بعيد عن ساحل المحيط. كان أهل تكرور التكارير/ التكارنة وثنيين الى أن أسلم ملكهم وارجابي بن رابيس المتوفي سنة 432/1041. ويقول البكري ان "أهل تكرور اليوم ]أي سنة 460/ 1068[ كلهم مسلمون"، ويؤكد ذلك ابن حزم الأندلسي إذ يقول: "بُلغت في عام إحدى وثلاثين وأربعمائة أنه أسلم أهل سِلَّى وتكرور، وهما أمتان عظيمتان من بلاد السودان، أسلم ملوكهم وعامتهم". إن التكارير كانوا أول من اعتنق الإسلام من أهل السودان الغربي، وعملوا بنشاط على نشره بين القبائل المجاورة لهم، وأصبحت التسمية "تكرور" مرادفة للسودان الغربي عند المؤرخين العرب في المشرق، بعد القرن الرابع عشر، كإبن فضل الله العمري والقلقشندي. وعن أثر احتكاك التكارير بالمغاربة يقول ابن سعيد "ومَنْ خالط البيضَ ]أي المغاربة[ وتحضر، اتخذ لباسه من الصوف والقطن، وذلك مجلوب له... وباديتهم عُراة، المسلمون منهم يسترون فروجهم بعظام أو جلود، والكفار لا يستترون". ويقول البكري "ان أهل سِلَّى يتبايعون بأزرٍ لطاف من قطن يسمونها الشكيات"، مما يوحي بأن زراعة القطن وحياكة الأقمشة القطنية وصلتا بلاد التكرور والسودان الغربي عن طريق التجارة مع المغاربة والاحتكاك بهم. المرابطون والسودان الغربي الى أن ظهر المرابطون في منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كان الإسلام ينتشر سلمياً وباضطراد في غرب أفريقيا جنوبي الصحراء على أيدي التجار المغاربة. ان طابع الدولة المرابطية منذ نشأتها - كما يُستدل من اسمها - كان الجهاد في سبيل الإسلام ونشره والقضاء على البدع وعبادةِ الأوثان. ان جهاد المرابطين في الجنوب أدى الى انتزاعهم أودغست سنة 1054م من يد ملك غانا، كما أدى الى استيلائهم على عاصمة غانا ذاتها سنة 1076 والقضاء على مملكته الوثنية. وقد أسلم أهلُها المعروفون بالسوننكي وانتشروا في المناطق المجاورة يزاولون التجارة، واليهم يعود الفضل في نشر الأسلام في مناطق كثيرة من السودان الغربي. ومع أن السيادة المرابطية على إقليم غانا كانت قصيرة الأمد - لانشغال المرابطين بشؤون المغرب والأندلس - إلا أن الإشارات في المصادر العربية تدل على قيام علاقات مستمرة بين المرابطين في المغرب وبعض حكام السودان. ان الوحدة التي أقامها المرابطون في المغرب الإسلامي - من الأندلس الى بلاد السودان - تتبين من اكتشاف عدد من شواهد قبور إسلامية يرجع تاريخها الى العقد الأول من القرن الثاني عشر 1100 - 1110م، ويُرجح أن تكون قد نُحتت ونُقشت كتاباتها في الأندلس، ثم نقلت عبر الصحراء لتقام على أضرحة ملكين وملكة في مدينة كوكو/ جاو Gao كانوا قد اعتنقوا الإسلام حديثاً، عثر على شواهد القبور هذه في Sane على مسافة عشرة كيلومترات شمالي كوكو. ونُقشت على هذه الشواهد الرخامية كتابةٌ بحروف كوفية بارزة، وهي من عمل نحات أندلسي اسمه يعيش. تدل النقوش على أن الحكام كانوا مسلمين وعلى صلة بالأندلس المرابطية. ومما يُذكر أن الرحالة ابن فاطمة، الذي نقل عنه ابن سعيد وابن خلدون والقلقشندي كثيراً من أخبار السودان وما وراءه من الأقاليم، هو من أبناء السودان الغربي السنغال أو غانا، وقد عاش في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وذكر ابن سعيد أن ابن فاطمة دار حول القارة الأفريقية من الغرب الى الشرق في حدود العام 648/ 1250. ولم تصلنا من كتابه الذي ألَّفه باللغة العربية سوى النقول التي أوردها ابن سعيد وابن خلدون، وهي تدلُّ على دقة اطلاعه بأحوال السودان الغربي. * بحث قدِّم في الندوة التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان بالمغرب وكلية الدعوة الإسلامية طرابلس - الجماهيرية في 12 و13 و14 أيار مايو 1998، وموضوعها: "التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الأفريقية الواقعة على جانبي الصحراء الكبرى". * أستاذ جامعي فلسطيني بأكسفورد.