تتربع مدينة أريحا الفلسطينية اليوم على هضبة منبسطة، هي أحد المدرجات البحيرية التي نشأت بدورها بعد انحسار البحيرة الأردنية القديمة وجفافها، وبذلك تشبه أريحا في موقعها مدينة بيسان في الغور الشمالي، حيث تنخفض 276 متراً عن سطح البحر. ويعتبر الخبراء الأثريون مدينة أريحا الفلسطينية من أقدم مدن فلسطين التاريخية، ويرجعون تاريخها الى العصر الحجري، أي الى ما قبل سبعة آلاف عام خلت، وهذا ما حمل بعضهم على القول إنها أي مدينة اريحا، أقدم مدينة في العالم قائمة حتى اليوم، وقام الأثريون بتشخيص موقع أطلالها في تل السلطان الذي يقع على بعد كيلومترين شمالي المدينة الحالية بجوار نبع عين السلطان. ويشير المؤرخون الى أن معنى أريحا اريحو في الكنعانية هو القمر، الأمر الذي يؤكد ان عبادة القمر كانت منتشرة في تلك المنطقة، ويذهب البعض الى غير ذلك بحيث تعني الكلمة عندهم الروائح العطرية. لقد كانت مدينة اريحا أول مدينة كنعانية هوجمت من جانب بني إسرائيل، اذ تمكن قائدهم يوشع بن نون وجنده في سنة 1186 قبل الميلاد من الاستيلاء على أريحا وأحرقوها وأهلكوا من فيها، وفي عصر القضاة 1170-1030 قبل الميلاد أخرج عجلون ملك المؤابيين اليهود من أريحا واتخذها عاصمة له. وجدد هيرودس الكبير اريحا ووسعها وزينها بمختلف المنشآت، فامتدت المدينة فوق ما يعرف اليوم بتلال أبي العليق قرب عين السلطان. ومن منشآت أريحا في عهد هيرودس القصور والحدائق والبرك والقنوات والميادين، وقام بدوره في بناء القلاع الحصينة لحماية المدينة والدفاع عنها، لكن سرعان ما تم تخريب مدينة أريحا. ويعود الفضل في إعادة بنائها على وادي القلط - حيث هي اليوم - الى الرومان. وازدهرت المدينة في عصر البيزنطيين، ودخلت في حكم العرب الذين فتحوا فلسطين في القرن السابع الميلادي وأتبعوها بمدينة الرملة في جند فلسطين، حيث كانت أريحا في صدر الإسلام من أهم المدن الزراعية في غور الأردن، وأحيطت المدينة بمزارع النخيل والموز وقصب السكر والحنة والبلسم. ووصف ياقوت الحموي أريحا بأنها مدينة الجبارين. اكتشفت في مدينة أريحا آثار مهمة، من أهمها: أسوار أريحا القديمة التي خربت سنة 1400 قبل الميلاد او 1350 قبل الميلاد، وكذلك قصر هيرودس الكبير الذي يظهر واضحاً من جبل التجربة، فضلاً عن اكتشاف الأثريين بيوتاً مترفة، وبدوره يعد قصر هشام بن عبدالملك في أريحا الذي حكم من 105 - 125 هجرية الموافق للفترة 724- 743 ميلادية من أهم الآثار في المدينة الموغلة في التاريخ والحضارة. وفي أريحا أماكن مقدسة، حيث وجدت جماعة قمران في أريحا الملجأ الأمين الذي يقيها من اضطهاد الظالمين، وسكن فيها قوم لوط، ولما ضلوا عاقبهم الله أشد عقاب، وتعمّد السيد المسيح في نهرها على يد يوحنا المعمدان في البقعة المسماة بالمغطس الذي يحج إليه المسيحيون في السادس من كانون الثاني يناير من كل عام، وتعبّد السيد المسيح في احد كهوف أريحا في جبل التجربة او جبل الأربعين المطل على أريحا من جهة الغرب، وبُنيت عبر التاريخ الطويل في أريحا مساجد وأديرة، ومن اهم المساجد مسجد أريحا القديم ومسجد صالح عبده ومسجد عقبة جبر. اما الأديرة المبنية، فدير المسكوب والمغطس ودير الحجلة. وازدهرت اريحا في أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث كان يشرف على المدينة مجلس محلي باشر أعماله بفتح الشوارع الجديدة وإعطاء رخص المباني وتنظيمها والإشراف على توزيع المياه على المزارعين، ومن الأهمية الإشارة إلى أن غالبية بيوت أريحا كانت من الآجر الطيني مسقوفة بالتراب الممزوج بالطين المرصوص فوق قضبان من القصب والخشب، وهذه الطريقة من البناء تخفف من وطأة الحر الشديد وترطب الجو في البيوت من جهة اخرى، وفي اواخر فترة الانتداب البريطاني أخذ بعض الأهالي في مدينة اريحا يشيدون بيوتاً من الحجر والاسمنت محاطة بالحدائق المزروعة بالأشجار لتنقية الهواء وتخفيف حدة القيظ من ظلالها على المساكن، وحدث تحول ديموغرافي نوعي في مدينة اريحا بعد نكبة عام 1948، حيث تركز عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في المدينة او في مخيميها، عين السلطان وعقبة جبر، وعرفت أريحا منذ القديم بغزارة مياهها وخصوبة تربتها، حيث أنشئت المدينة في قلب واحة روعة في الجمال وتكثر فيها الأشجار، ولذلك اصبحت مدينة أريحا من اهم المدن الفلسطينية الزراعية منذ صدر الاسلام، حيث لمنتجاتها أهمية داخلية لسد حاجات المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وكذلك لعمليات التصدير الى الخارج. ومن اهم منتجات أريحا الزراعية، الموز والحمضيات والسمسم والقمح والشعير والذرة، وقد أدى نشاط أهل المدينة الى ظهور بعض الصناعات فيها مثل صناعة السكر من القصب، وتصنيع التمور من البلح، والزيت من الزقوم، والآجر من الطين، والحصير من القصب، فضلاً عن مصانع عدة للنسيج والمياه الغازية والمفروشات. ولأن مدينة أريحا تزخر بآثارها الماثلة للعيان، باتت عامل جذب لآلاف السياح سنوياً، ولا سيما في فصل الشتاء لزيارة الأماكن الأثرية والدينية، وللاستمتاع في الوقت ذاته بدفء الشتاء في ظل المناظر الطبيعية الجميلة والأشجار، الأمر الذي ساعد في تنشيط الاقتصاد الفلسطيني والمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي وكذلك في اجتذاب مزيد من قوة العمل الفلسطينية، لكن النشاطات الاستيطانية الاسرائيلية حول المدينة، وكذلك السياسات الاقتصادية، المتمثلة في شكل رئيس بالحصار الاقتصادي وعمليات الإغلاق المتكررة والتدمير المبرمج للبنية التحتية في مدن الضفة كافة بما فيها مدينة اريحا منذ بداية الانتفاضة في ايلول سبتمبر من عام 2000 أدت الى انعكاسات سلبية على كل نشاطات المدينة وعلى أداء قطاعي السياحة والتجارة على وجه التحديد. * باحث - مكتب الإحصاء الفلسطيني - دمشق