كان الكاتب المصري محمد عودة، مرجعاً. أصدقاؤه حين يشتاقون للاجتماع يذهبون اليه. ميسورين كانوا أم فقراء، يجلسون في شقته الصغيرة التي تتسع لهم. كان يلزمهم أن يذهبوا اليه ليحبّ بعضهم بعضاً. يلزمهم أن يكون موجوداً بينهم ليتواصلوا. نقطة لقاء. يأتي اليه المخلصون، ناصريين كانوا، شيوعيين أم ليبراليين. يمرون بالقاهرة من بلدان شتى، من الكويت والخليج، من المغرب أو العراق، ليلتقوا به ويلتقوا بغيره. حياته في حدّ ذاتها تاريخ، وهو راوٍ بامتياز. لذا كان يحلو لنا أن نستمع اليه يروي. لو سئل عن عصر الخديوي توفيق مثلاً، وتكلم فسيجعلك من أبناء ذاك الزمن، تتحسر على الديون التي تثقل كاهل مصر. يغريك بالاستماع كما يغريك بالعودة الى أمهات الكتب. فكاهي. حين سُجن في عصر السادات خرج بحكايات تضحك بقدر ما تترك من أسى في النفس."سأل السجين الحارس: كم الساعة الآن؟ فأجاب: انها الثانية. الثانية بالضبط؟! سأل السجين". متقشف، مورده المالي مرتبه وما تدر عليه مقالاته وكتبه. متقشف، حياته شديدة الثراء في معناها الإنساني، شديدة القوة في أصالتها وفي انتماء صاحبها لمصر، للعروبة ولعصره. سبقه قبل الأوان الى نهاية الدرب رفاق مميزون، مثل أحمد بهاء الدين وفيليب جلاب، فخلت مقاعد هؤلاء. حرٌّ على رغم تشدده، يحيا آلام الشعوب والضعفاء والمضطهدين ويحمل قضاياهم. اختصر موقفه من العولمة بعبارة بليغة: بهرجة الرفاهية وتعاظم التكنولوجيا فيها يسيران في خط متناقض مع نمو المجتمعات وسعادة الإنسان، حماسته لعبدالناصر كانت كبيرة حتى ان بعضهم ظن أنه كان من مستشاريه. رافق المسيرة الناصرية ولم يلتق بعبدالناصر إلا مرات نادرة. رقاده أشهراً في المستشفى يشبهه. نعم، أدار الناصري النقيّ ظهره للويلات التي تعيشها بلاد آمَن بقضاياها ورحل. في الآونة الأخيرة كنّا نشعر بأنه في كل مرة يودّعنا، فلا نصدّق. كان يلزمنا وجوده لكي نبقى معاً.