لم يبق سوى عدد قليل من الحلقات التلفزيونية التي سجلها الداعية الاسلامي الشيخ محمد متولي الشعراوي، وبعد بثها لن يطالع المصريون وجه الرجل يطلّ عليهم بصوته يوم الجمعة من كل اسبوع شارحاً ومفسراً آيات القرآن الكريم واحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. غيّب الموت امس الشيخ الشعراوي عن عمر يناهز السابعة والثمانين. وفقد المصريون والعرب والمسلمون واحداً من اهم الدعاة خلال القرن الجاري. فاضت روحه صباحاً بعد تدهور حاله الصحية، وشيعت جنازته عقب صلاة العصر في مسقط رأسه في مدينة قادوس التابعة لمحافظة الدقهلية وشارك فيها آلاف المواطنين. ظل الشعراوي طوال تاريخه طرفاً في معارك وقضايا فكرية وسياسية الا ان خصومه لم يقللوا ابداً من مكانته الدينية والعلمية. كما أنه لم يتعرض يوماً لبطش السلطة على رغم انه كان يدخل معها في مناطق شائكة. وعلى رغم أن اجراءات نظام تموز يوليو ضد الاسلاميين عموماً والاخوان خصوصاً كانت عنيفة إلا إن الشعراوي لم يطاوله منها شيء، إذ لم يكن يوماً من الاخوان بل ان آرائه كانت دائماً ضدهم. برز الشعراوي بشدة عقب وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ودخل في معركة مع الناصريين حينما اعلن انه صلى ركعتي شكر لله لوقوع هزيمة حزيران يونيو لأنها كانت السبب في سقوط نظام عبدالناصر. لكن الشعراوي نفسه عاد بعد نحو 25 سنة فذهب الى قبر عبدالناصر وحرص على اصطحاب احد مصوري الصحف معه واعلن هناك انه رأى عبدالناصر في الحلم "وعفا الله عما سلف". تراجع عن موقفه السابق موضحاً ان بعض القادة قد يتخذ من القرارات ما تمليه عليهم الظروف الاقليمية والدولية. وواجه الداعية الراحل رياحاً عاتية عندما اعترض "شباب الصحوة الاسلامية"، التي كانت تشهدها الجامعات المصرية اواسط السبعينات، على قبوله منصب وزير الاوقاف واتهمه البعض بأنه بذلك صار "من دعاة السلطة". وحين ظهر الشعراوي على شاشة التلفزيون، خلال أحداث 18 و19 كانون الثاني يناير 1977 التي اطلق عليها السادات اسم "انتفاضة الحرامية"، وطلب من الشباب التزام الهدوء ووقف اعمال العنف تعرض لحملة مناوئة من كل التيارات. وبعدما خرج من الوزارة بناء على طلبه اعلن ان اسوأ فترات حياته كانت اثناء توليه الوزارة وانه إن كان ندم على شيء في حياته فإنه ندم على قبوله المنصب. غير ان مواقف الداعية الكبير بعد خروجه من الوزارة ظلت مثيرة للجدل، وفوجئت به الاوساط المصرية يقود جهوداً للوساطة بين الحكومة وقادة الجماعات الدينية الذين يقضون عقوبة السجن في قضية اغتيال السادات، وذلك اثر تفجر الصراع بين الطرفين عام 1993. قصد الشعراوي السجن والتقى القادة ثم انتقل الى مقر وزارة الداخلية والتقى الوزير، آنذاك، عبدالحليم موسى. وحسب المحامي البارز منتصر الزيات، الذي كان احد اعضاء لجنة الوساطة، فإن الشعراوي فوجئ بأن قادة الجماعات يضعون ثقتهم الكاملة فيه ويبلغونه أنهم سيوافقون على ما يتوصل اليه مع الحكومة لاقتناعهم بأنه حريص على حقن الدماء ونزع اسباب العنف. ويكشف الزيات ان الشعراوي ظل يسأل عن احوال الشيخ الدكتور عمر عبدالرحمن الموجود حالياً في احد السجون الاميركية ويطمئن الى حاله من آن لآخر. وبدا ان الشيخ اراد ألا يترك الدنيا قبل ان يسجل موقفاً بارزاً من احدى اهم القضايا التي شغلت الرأي العام في مصر، وهي تتعلق بقانون تطوير الازهر الذي تبناه شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي واقرّه مجلس الشعب البرلمان اخيراً. اذ عارض الشعراوي القانون وحذر من ان الازهر "يتعرض للاعتداء". ولأن آراء الشيخ وأحاديثه حظيت دائماً بالاهتمام فإن موقفه من القانون أحدث ردود فعل واسعة دفعت شيخ الازهر الى القيام بزيارة اليه في منزله حيث أطلعه على مواد القانون وأكد له انه لن يسمح ابداً بالمساس بمستقبل الازهر ومكانته. وفوجئ الرأي العام بالشعراوي يصدر بياناً حمل توقيعه يعلن فيه تراجعه عن موقفه وموافقته على القانون، وحين تبين له ان الرأي العام استغرب موقفه عاد وصرح بأنه تلقى وعداً صريحاً من طنطاوي بإعداد قانون يتلافى الانتقادات كافة. وأجريت للفقيد الكبير ثلاث عمليات جراحية. وخضع الشعراوي للاشراف الطبي المكثف في اعقاب تعرضه لأزمة صحية مفاجئة خلال الشهر الجاري بعد التهاب احدى رئتيه ما ادى الى اصابته بضيق شديد في التنفس تطلب وضعه في العناية المركزة. واصبح الشيخ الشعراوي فاقداً القدرة على الحركة بمفرده نتيجة آلام حادة في فقرات العمود الفقري إذ كان يعاني في السنوات الاخيرة من مرض هشاشة العظام الذي يصيب كبار السن عادة. ونعى الازهر الشريف، في بيان له امس، "العالم الجليل والامام الداعية"، فيما تلقى الرئيس حسني مبارك رسائل تعزية من العديد من قادة الدول العربية والاسلامية بوفاة الشعراوي، في مقدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز عاهل السعودية وولي عهده الامير عبدالله بن عبدالعزيز. وكان مبارك نعي الفقيد الى شعب مصر وشعوب الامتين العربية والاسلامية، وجاء في بيان لرئاسة الجمهورية إن الفقيد "قدم للاسلام والمسلمين عطاءً زاخراً من علمه النافع طوال حياته التي وهبها لإعلاء كلمة الله وشرح مفاهيم الاسلام الصحيحة بأسلوبه المتفرد الذي جذب قلوب مئات الملايين في شتى بقاع الارض"