ستقوم وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بجولة تشمل عدداً من دول الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة المقبلة. وبغضّ النظر عمّا صدر بشأن هذه الزيارة، سواء من مسؤولين أميركيين أو غير أميركيين، فالمؤكد أن هذه الجولة الديبلوماسية تأتي على صدى تصاعد التصريحات حول الحاجة لعقد مؤتمر دولي موسع تحت الرعاية الأميركية - الغربية، يشمل عدداً من دول الشرق الأوسط، من أجل التعامل مع الأزمات الراهنة التي تعصف بالمنطقة. وعلينا هنا ان نقف ونتساءل: أين ذهبت وعود وتعهدات مؤتمر مدريد الدولي للشرق الأوسط الذي عُقد في تشرين الثاني نوفمبر 1991 تحت الرعاية الأميركية؟ وإذا كان هذا المؤتمر جاء في أعقاب"الانتصار"الأميركي على العراق، وتحرير دولة الكويت، فإن المؤتمر القادم - في حال عقده - سيأتي في ظل ظروف صعبة، وعجز فاضح تعاني منه الولاياتالمتحدة في العراق، ناهيك عن النقاط التي سُجلت لمصلحة أعداء أميركا، خصوصاً إيران و"القاعدة". وإن كنا كعرب دفعنا مجبرين ثمن انتصار أميركا بالأمس، فنحن سندفع مجبرين ثمن عجزها اليوم، وهو أغلى بكثير مما دفعنا سابقاً. فالثمن اليوم ليس مجرد المال، بل هو أغلى وأثمن من ذلك، هو أمننا واستقرارنا. وعلى رغم تعدد القضايا الشائكة والمتفجرة في منطقة الشرق الأوسط، التي تحتاج إلى حلول جذرية، إلا أن الوضع المتردي في العراق، الذي هو اقرب ما يكون إلى الحرب الأهلية، ينذر بكارثة سوف لا تقف آثارها عند منطقة الخليج، ولكنها ستمتد إلى المنطقة برمتها. ونظراً إلى أن واشنطن تواجه مأزقاً حقيقياً في العراق، فإن السؤال الأساسي الذي نطرحه قبيل بدء جولة رايس هو: هل هذه الجولة وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج، بما في ذلك إمكان عقد مؤتمر دولي للشرق الأوسط، تهدف إلى توفير استراتيجية لهروب الولاياتالمتحدة من المأزق العراقي، ولكن الهروب الى أين؟ هل بعد كل ما حدث من دمار مادي ومعنوي واستراتيجي هائل، لم يكن له أي مبرر منطقي او مسوغ شرعي أو قانوني، تستطيع الولاياتالمتحدة التهرب من مسؤولياتها وذنوبها وسوء تصرفاتها؟ وإذا كانت الولاياتالمتحدة قادرة على الهروب فدول المنطقة وشعوبها لن تكون بالتوازي قادرة على الهروب من، أو الالتفاف بسهولة على، مخلفات وإسقاطات المغامرة الأميركية الحمقاء. نحن كعرب نقول للسيدة رايس، إننا جميعاً ضحايا تخبط السياسية الأميركية، وغطرسة ممارسة القوة التي تنتهجها الولاياتالمتحدة، وبخاصة في ظل سيطرة المحافظين الجدد على مراكز القرار، ناهيك عن المعايير المزودجة التي دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على التعامل بها مع قضايا العرب والمسلمين، ما خلق حالاً من الكراهية، تكاد تكون غير مسبوقة، للسياسة الأميركية في المنطقة. إن إيران و"القاعدة"وقوى الإرهاب اليوم تستثمر، وبشكل فعال ومجد، نتائج أخطاء وخطايا اميركا في الشرق الأوسط، التي تراكمت على مدى عقود، حتى بلغت أوجها في ظل الإدارة الحالية، كما أن قوى الشر والتطرف الديني والطائفي والعنصري الأعمى تهلل لانعدام الحكمة في سياسة اميركا، وتحصل كل يوم على مكاسب مجانية، فالإرهاب الدولي أمسى بخير وازدهار مطّرد، ودول إقليمية ذات نزعة نحو الهيمنة والتوسع، وجدت في ظل فشل هذه السياسة فرصة ذهبية لتعمل ما تشاء، وتتدخل في شؤون الآخرين من دون رادع، وتبني قواعد نفوذها من دون عناء. الخطر الذي نواجهه اليوم نتيجة لسياسة الولاياتالمتحدة الهوجاء هو خطر استراتيجي، يحمل نتائج بعيدة المدى وشديدة الأثر. ولكن، مهما كانت التداعيات السلبية للسياسة الأميركية على المنطقة العربية، فإنه من غير الحكمة أن نلقي كل اللوم على أميركا، وننفض أيدينا ونستريح لإعمال نظرية المؤامرة، فأميركا قوة عظمى لها مصالحها وحساباتها، قد تخطئ في الحسابات وفي تقدير المصالح الحقيقية، إلا أن الحقيقة المؤلمة التي لا يمكن تجاهلها، هي أن المسؤولية الرئيسية عما أصاب - ويصيب - الوطن العربي، تقع فى المقام الأول على عاتق العرب أنفسهم. فالعدوان الأميركي على العراق، والعدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان، والتدخلات الإيرانية في شؤون بعض الدول العربية، والتهديدات الكردية بالانفصال، والحركات الانفصالية في السودان، وغيرها من الظواهر السلبية والخطرة التي تعاني منها المنطقة العربية، ما هي إلا نتاج فعلي لضعف الإرادة العربية، وانعدام القدرة الذاتية لديهم، والتشتت والتناحر. فنحن كعرب نبدو اليوم كالأيتام على مائدة اللئام، ينهش لحمنا كل من هب ودب من أميركا إلى إسرائيل وإيران وقوى الإرهاب، وآخرين ينتظرون دورهم وفرصتهم للانقضاض على الفريسة. وفى ضوء ما سبق، يمكن ترجيح أن ما تريده الولاياتالمتحدة من الدعوة لعقد مؤتمر دولي للشرق الأوسط، هو مساعدتها على الخروج من المأزق العراقي بأقل كلفة ممكنة، وبضمان حفظ ما تبقى من ماء الوجه. ولكن مثلما للولايات المتحدة حق بطلب عقد المؤتمر، أو بمجرد عرض الفكرة، فإن لنا كعرب حقاً مشروعاً ومنطقياً بسؤال صانع القرار الأميركي: ما الذي سنجنيه من دعمنا للمشروع؟ فإذا كنا شركاء في مكافحة الإرهاب والتطرف والهيمنة الإقليمية، كما تدعي الإدارة الأميركية، فإن لكل شراكة أصولاً وقواعد وحقوقاً، ليس منها التفرد بالقرار وإغفال مصالح وهموم الطرف الآخر. وإذا جاءت السيدة رايس بطلب عقد المؤتمر، فيجب ان نعرف ما لنا قبل ان نعرف ما علينا. يجب ألا نهرول ونجلس على كراسي قاعات الاجتماع، ونقف أمام عدسات التلفزيون، لمجرد ان نقول إننا شركاء. لقد فقدنا كعرب الثقة بسياسة الولاياتالمتحدة منذ زمن طويل، والشراكة لا يمكن ان تقوم - بعد كل الذي حدث - على أساس حسن النيات والافتراضات الايجابية. هذا المؤتمر لا حاجة ولا ضرورة له ان كان هدفه مساعدة الولاياتالمتحدة على الهروب والتهرب من مسؤولياتها، ومحو ذنوبها وغسل يديها من دماء مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء، وتدمير البنية التحتية للدولة العراقية، وتهديم التوافق والبنية الأساسية للمجتمع العراقي. وإذا كان المطلوب منا تقديم حبل النجاة، فإن لكل شيء ثمناً. يجب ان يكون هدفنا الحرص على مصلحة العراق وحياة مواطنيه، وضمان وحدته الإقليمية وهويته العربية واستقراره، وضمان سيادته الكاملة بعيداً عن النفوذ الخارجي. نحن لا نريد ان نكرر مأساة مؤتمر مدريد، بالموافقة على المشاركة في مؤتمر جديد لا جدوى ولا نفع لنا منه. فنحن لنا مصالح حيوية تتحكم في وجودنا وبقائنا وأمننا واستقرار مجتمعاتنا، وهذه يجب ان تكون خطوطاً حمراً يجب التشبث بها في أي حوار استراتيجي قادم مع الولاياتالمتحدة. فالتعامل الفعال والحاسم مع المأزق العراقي، والعمل على تحقيق الاستقرار والأمن في العراق، والوقوف أمام النفوذ الخارجي، مطالب تقع في صلب أمننا واستقرارنا. والتعامل البناء لحل القضية الفلسطينية بشكل عادل ومنصف، يجب أن يكون في قلب مطالبنا، في ظل التطبيق الكامل لقرارات الشرعية الدولية. فقد آن الأوان أن يفهم صانع القرار الأميركي أن الشراكة طريق ذو اتجاهين، ولنا حق مساو ومتعادل في السعي لتحقيق وحماية مصالحنا القومية والوطنية، بقدر ما للطرف الآخر. ولكن قدرة العرب على تحقيق ذلك تتوقف بالأساس على نجاحهم في صوغ أجندة عربية واضحة وواقعية، تكون منطلقاً لأي حوار مع واشنطن، فضلاً عن العمل بجدية من أجل صوغ أسس جديدة للعلاقات العربية - الأميركية، بحيث تنطوي، إلى جانب عناصر أخرى، على التخلي عن نهج التسابق الذي تطبقه بعض الدول من أجل بناء علاقات خاصة مع واشنطن على الصعيد الثنائي، من دون أية اعتبارات أخرى، وهو نهج تفضله وتكرسه الولاياتالمتحدة، حيث يحول دون تبلور أي موقف جماعي عربي تجاهها. كما أن الدول العربية مطالبة - أكثر من أي وقت مضى - بسد الذرائع التي تستغلها بعض الأطراف الخارجية، من أجل التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال اتخاذ خطوات جدية على طريق الإصلاح الحقيقي والشامل، استناداً على رؤى ومعطيات وطنية، وليس استجابة لضغوط خارجية. والخلاصة، أنه بغض النظر عن النتائج التي يمكن أن تسفر عنها زيارة رايس المقبلة للمنطقة، فالشيء المؤكد أن المنطقة العربية تواجه في الوقت الراهن تحديات كبيرة، وأن مستقبل كيانات عربية في الميزان. وإن لم يبادر العرب الى تحديد أجندتهم والعمل من أجل تنفيذها بفاعلية، فسيستمرون ضحايا لأجندات الآخرين، ما ينذر بتفاقم الأوضاع في المنطقة على نحو قد يؤدي إلى تفكك بعض الدول، ووقوع دول أخرى فريسة لدورات جهنمية من العنف والعنف المضاد، ناهيك عن تزايد حال الاختراق الخارجي للوطن العربي، سواء من قوى إقليمية أو دولية. فهل العرب قادرون على ذلك قبل فوات الأوان؟... هذا هو التحدي! * رئيس مركز الخليج للأبحاث