انطلقت يوم 26 من شهر كانون الثاني يناير العروض الأوروبية لفيلم ستيفن سبيلبرغ الجديد"ميونيخ"الذي ينطلق من العملية الفلسطينية الشهيرة التي نظمها التنظيم الفلسطيني المعروف آنذاك"أيلول الاسود"داخل القرية الأولمبية في ميونيخ عام 1972 باحتجاز 11 من الرياضيين الأسرائيليين أدى في النهاية الى قتلهم جميعاً مع محتجزيهم الفلسطينيين. تبدو مفارقة لافتة ان يصادف توقيت العروض الاولى للفيلم مع الانتخابات الفلسطينية الأخيرة والفوز الكبير للحركة الأسلامية المتشددة"حماس"، المفارقة أن فيلم سبيلبرغ هو وجهة نظر واضحة وحادة ضد العنف الفلسطيني - الاسرائيلي، العنف الذي يأمل المخرج ان ينتهي خلال سنوات حياته الباقية وكما قال بنفسه عن دوافعه لعمل فيلم مثل"ميونيخ". فوز"حماس"الشعبي والسياسي الذي غطى كثيراً على الجدل الدائر حول الفيلم لا يوحي أبداً بأي بشارة لتوقف العنف او أنحساره،"حماس"لا تعترف في أدبياتها بالدولة الاسرائيلية ولا بالسلام مع دولة تراها غير شرعية . واسرائيل بدورها تعتبر"حماس"منظمة أرهابية وتخوض منذ زمن حرباً عنيفة معها هي التي قتلت دون تردد وبعنف حاد الشيخ أحمد ياسين الزعيم الروحي للمنظمة وخلفه الرنتيسي ومئات من أعضاء المنظمة، المنظمة التي يبدو ان عليها ان تدير خلال أسابيع أمور أكثر من 3 ملايين فلسطيني داخل فلسطين! فاذا بدا أفق السلام بعيداً ومشوشاً، والعنف محركاً للجماعات في الشرق الاوسط، ما الذي يبقى من فيلم سبيلبرغ اذن؟ نخشى ان الباقي ليس مهماً جداً لكنه يستحق التوقف وبعض الاشادة. مهما يكن ليس توقيت الفيلم وظروف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الراهنة، هي التي أضعفت الفيلم ورسالتة السلمية، بنية الفيلم نفسه ومرجعياتة التاريخية الخاطئة وغير الدقيقة أفقدته الكثير من قوتة ومصداقيتة . على رغم من أن قصة الفيلم حقيقية والحادثة شهيرة جداً والشخصيات فلسطينية وإسرائيلية مازال قسم منها موجوداً، الا ان المخرج سبيلبرغ أختار أستخدام كتاب لمؤلف كندي لأحداث وشخصيات فيلمه. نواقص الكتاب هو"انتقام"للمؤلف الكندي جورج جوناس الذي يحكي قصة عملية ميونيخ وعمليات الاغتيال التي تلتها والتي نفذها جهاز المخابرات الاسرائيلي الموساد لكل قادة العملية الفلسطينيين الروحيين والفعليين. هذا الكتاب اعتمد عليه المخرج سبيلبرغ وهو كتاب خيالي يسرد بأثارة عالية قصص الانتقام الموسادي التي نعرف نهاياتها لكننا بالتأكيد لا نعرف تفاصيلها وظروف الأعداد لها. نعرف ان الموساد قتل أكثر من عشرة قياديين فلسطينيين من المخططين لعملية ميونيخ وعشرات غيرهم صادف وجودهم في أوقات وأمكنة الاغتيالات. لكننا لا نعرف كيف جرت تلك الاغتيالات وفي أي ظروف، الفيلم يتبع الكتاب فيسطر أحداثاً وهمية قد تصلح مع موضوع أقل شائكية من موضوع الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، الفيلم تحول أحياناً في مسعاه الى سارد لأحداث عنف مثيرة بدت قريبة الى أفلام المافيات او جيمس بوند منها الى الصراع الأعقد في العالم. شخصيات فريق الاغتيالات والذي أختارت رئيسة الوزراء غولدا مائير أعضاءه بدت مسطحة وغير قابلة للتصديق ولا تستطيع الحصول على التعاطف الذي سعت اليه أحياناً. أجتهد الفيلم لإظهار صراع نفسي متصاعد بين أفراد الفريق الاسرائيلي الذي كلف بإغتيال القادة الفلسطينيين ، الصراع النفسي بين أفراد المجموعة والذي كان يتعاظم مع كل تعقيدات وقسوة عمليات الأغتيال، وشكوكهم بجدوى وقانونية ما يفعلون بقيت داخل الشاشة بعيداً ومعزولة. امامنا في نهاية الامر تردد فريق الاغتيالات الاسرائيلي وشكوكه الوجودية لكننا لسنا متأكدين منه، كل المشاهد العاطفية المرتبكة الزائدة عن حرص الفريق بأن لا يصاب عوائل الفلسطينيين بأذى بدا شيئاً غير مقنع وزائداً، نعرف ان العشرات من الأبرياء قتلوا مع من قتل من القادة الفلسطينيين كما نعرف ان بعض الأجانب قتل أيضاً في دوامة العنف تلك، الفيلم لم يذكر مثلاً السيدة النروجية التي قتلت خطأ في أحد المقاهي الاوروبية أثناء واحدة من عمليات الاغتيال التي نفذها الموساد. بدا الفيلم في معظمه يخاطب جمهوراً غير مهتم بحوادث بدت انها حدثت منذ مئات السنين وليس قبل 30 سنة ومازال معظم شهودها أحياء. لا أعتقد ان الجمهور العربي سيخرج راضياً عن الفيلم هذا اذا تم عرضه في الدول العربية ولا أظن ان الفيلم أرضى الجمهور الاسرائيلي هناك أعتراضات واسعة على الفيلم في أسرائيل ، ليست مسؤولية المخرج بالطبع خلق فيلم يرضى عنه الجميع خصوصاً أذا تم تناول قضايا شائكة كقضية الصراع العربي الفلسطيني. لكن المخرج نجح في أغضاب حتى الجمهور الغربي المحايد والمثقف البعيد جغرافياً وعاطفياً عن موضوع الفيلم وقسوة العنف فيه بسبب غياب الحقيقة التاريخية في الفيلم وأحادية وتكرارية شخصيات فريق الاغتيالات الأسرائيلي. لكنها في المقابل قد تكون هذه المرة الأولى التي تكون صورة الفلسطيني بهذا الوضوح والأنكسار في فيلم من أنتاج هوليوود، هوليوود لم تقارب الصراع الاسرائيلي الفلسطيني والعربي بهذه الجرأة والتجديد من قبل، قد تكون لدى كثر اعتراضات على الفيلم حتى قبل مشاهدتة، أعتراضات على المخرج أو على هوليوود نفسها لكن الفيلم يقطع طريقاً لم يسلك من قبل بجرأة غير مسبوقة. يبدأ الفيلم بالمجموعة الفلسطينية التي تتسلل الى القرية الأولمبية من أجل هدف واضح واحد سوف يهز العالم ، المجموعة والتي كانت جزءاً من حركات سياسية فلسطينية بدأت بتنفيذ عمليات خطيرة ومتهورة من أجل لفت أنتباه العالم الى القضية الفلسطينية سوف تحتجز الفريق الأسرائيلي الرياضي بأكمله قبل أيام من بدء الالعاب الرياضية الأولمبية في ميونيخ. لا تمر عملية الأحتجاز بدون مقاومة عنيفة من الرياضيين الاسرائيليين، مشاهد العنف الأولى بين المجموعة الفلسطينية والرياضيين الاسرائليين مميزة ببشاعتها وأنغلاقها وتوحي بسعي صادق للمخرج وفريق عمله الى فيلم حيادي انساني يسعى الى تحليل ظاهرة العنف الشرق الاوسطي، طبعاً لن نستطيع أن نعرف ابداً اذا كان العنف خياراً للمجموعة الفلسطينية المسلحة ام انه رد فعل لمقاومة غير متوقعة من الرياضيين الاسرائيليين. شبان وسيمون فلسطينيو سبيلبرغ هم شباب عرب عاديون بل يميلون الى الوسامة غاضبون ومتحمسون وأبناء فترة زمنية سياسية وإجتماعية معقدة جداً، غابت تلك الصورة النمطية الحازمة البشعة المتشنجة للعربي في الفيلم الهوليوودي من فيلم سبيلبرغ وحلت صورة تبدو متجانسة مع ذاك الزمان والمكان. فيلم سبيلبرغ يسلط الضوء على قصة الانتقام الاسرائيلي من المجموعة الفلسطينية التي خططت لعملية ميونيخ بعيون أسرائيلية لكن مشاهد العرب القليلة فيه مميزة والشخصيات العربية أتت بأبعاد متعددة وغنية وحية قبل بدء عروض الفيلم عرض التلفزيون الهولندي برنامجاً مع القيادي الفلسطيني الوحيد الناجي من عمليات الاغتيال والذي يعيش في أحد البلدان العربية الآن ، هذا الفلسطيني تحدث بلغة جامدة عن الرياضيين الاسرائيليين هدف العملية آنذاك وكيف انهم خدموا قبل ذلك الوقت مع الجيش الاسرائيلي ، لغة شخصيات الفيلم الهوليوودي كانت أنضج بكثير من لغة الناجي الوحيد!. هناك مشاهد مؤثرة وحوارات قصيرة بين الفلسطينيين في الفيلم تكاد تكون معبرة عن الخطاب الفلسطيني السياسي والشعبي في الماضي وبعض الحاضر، هناك مشهد للسيد الفلسطيني المثقف وزوجته الغاضبة من العنف الاسرائيلي في فلسطين وتبريرها لعملية ميونيخ، كذلك المشهد المهم لعلي وهو شاب فلسطيني كان يحرس أحد قيادات أيلول الأسود وها هو يحاور الآن رئيس فرقة الاغتيالات الاسرائيلية، للأسف لم تترجم تلك الحوارات في صالات العرض الهولندية ولا نعرف اذا كان تأثيرها في الآخرين يشابه تأثيرها في العرب!، على رغم ذلك فإن الصحافة الهولندية شكت من أنحياز الفيلم الى اسرائيل واشتكت مجدداً من الصورة العربية الهزيلة فيه! مرة أخرى خطا المخرج سبيلبرغ مجدداً خطوة يصعب على الآخرين تخطيها، أنجاز مشروع كهذا بكل الأخطاء والهفوات ربما يكون بداية لتعامل جدي لهوليوود مع الفلسطينيين والقضايا العربية في شكل عام. وسبيلبرغ لم يعد يحتاج الى تعريف فالمخرج صاحب الأفلام التجارية الناجحة يصر على التنويع واختيار مواضيع متجددة، سبيلبرغ يصر على تقديم شهادات وأفكار ذات معنى أنساني كبير، فيلمه الحميم"صالة الانتظار"2004 مثلاً هو وقفة شجاعة ضد مشاعر العداء للأجانب بعد أحداث 11 سبتمبر في أميركا، أفلام سبيلبرغ تعج بشخصيات غريبة قادمة من أمكنة بعيدة لكنها في الغالب تكون مملوءة بالحب للآخرين. فيلم"ميونيخ"لا يحتوي على الكثير من الحب ولا ينتهي نهاية عاطفية كحال الكثير من افلام سبيلبرغ ومع هذا تبقى الأبواب مفتوحة ما دامت القضايا لم تحل بعدالة. المخرج سبيلبرغ تحدث لجريدة هولندية عن أمنيته بأن يشاهد فيلمه الشباب الفلسطيني والأسرائيلي معاً وربما ليشاهدوا ان العنف لا يجلب الا عنفاً أقوى وأن لا نهاية لدورة الموت والكره الا بالاعتراف بالآخر واحترامه!