عندما يختلط التاريخ بالسياسة ينحرف التاريخ عن صدقيته المفترضة وتتعطل السياسة عن وظيفتها كناظمة للعلاقات الطبيعية بين الدول. والجدل الذي نشهده اليوم حول اشكالية ما تعرض له الارمن في تركيا في سياق الحرب العالمية الاولى يدخل في هذا الاطار. فما يحمل في القاموس الارمني اوصافاً مثل"المجزرة"أو"المذابح"، لا يتعدى في نظر الاتراك كونه تفصيلاً رافق الاعمال الحربية آنذاك، في حرب سقط فيها الملايين وبينهم اتراك وأرمن وابناء قوميات اخرى من تابعي الدولة العثمانية. وكل من يعرف شيئاً عن تركيا الحديثة يدرك حساسية موضوع"المجازر"الأرمنية بالنسبة اليهم، وهي حساسية لا توازيها الا قضية العلاقة الشائكة مع الاقلية الكردية. فعلى رغم أن تركيا غادرت الامبراطورية العثمانية قبل اكثر من ثمانين عاماً، لا تزال ردود الفعل في الشارع التركي كما يفترض أنها كانت عليه في ذلك الزمن، اذ أن كل اثارة لهذا الموضوع تعتبر بمثابة استهداف للقومية التركية. وهو ما عطل عمل كثيرين من المؤرخين الاتراك البارزين الذين ارادوا الانكباب على فتح صفحات تلك الحقبة، فكانت السياسة لهم بالمرصاد. والسياسة في هذه القضية تحظى باجماع يقل نظيره في تركيا مقارنة بقضايا اخرى. فالاسلاميون والعلمانيون، والجيش ومختلف الاحزاب السياسية، كلها تلتقي على موقف شبه اجماعي يرى أن الارمن لم يتعرضوا لمجازر بسبب قوميتهم أو دينهم. وتركيا لا تتحمل أي مسؤولية عما يقولون انه حصل لهم! لذلك اعتبرت تركيا ان مشروع القانون الفرنسي الذي يحظر ادانة"المجازر"الارمنية، كما اختيار الروائي البارز اورهان باموك لجائزة نوبل للآداب، بمثابة"تدخل"في شأنها الداخلي. فعلاقات تركيا تمر بمشكلة مع فرنسا بسبب معارضة قطاع من الرأي العام الفرنسي لانضمامها الى الاتحاد الاوروبي، كما تعاني علاقات حكومة رجب طيب اردوغان من شبه قطيعة مع باموك، منذ احيل الى القضاء في العام الماضي بسبب تصريحه بضرورة اسقاط الحرم المفروض على مناقشة قضايا الارمن والاكراد في بلاده. ومع أنه تم التوقف عن ملاحقة باموك من دون اسقاط القضية تماما، فإنها استطاعت أن تفرز تيارين في تركيا: واحد يشكل اكثرية يلتقي ضمنها القوميون المتطرفون والاسلاميون وحكومة اردوغان بينهم وآخر يضم الفئة الليبرالية التي تنظر الى مستقبل تركيا على أنه يلتصق بالاتحاد الاوروبي، ويعيد قراءة تاريخ تركيا بنظرة قادرة على ممارسة النقد. وضمن هذا التيار مثل باموك صوتاً بارزاً، فمن شقته المطلة على البوسفور استطاع أن يقدر بوضوح وثقة اهمية الدور الذي يستطيع بلده أن يلعبه كجسر بين الثقافات والاديان، في زمن يتقطع فيه الكثير من الجسور. كان في وسع تركيا أن ترحب بحرارة باختيار باموك لجائزة عالمية بارزة باعتباره يمثل صوت المستقبل. وكان في وسعها أن تتجاوز التصويت الفرنسي، الذي لم يكن يستحق الضجة التي واجهته. فحجم التصويت يعكس النقص في الاجماع النيابي حوله: 448 نائباً من اصل 577 هم اعضاء الجمعية الوطنية لم يشاركوا في التصويت. ومن بين الذين صوتوا، أيد المشروع 106 نواب فقط، أي أقل من خمس عدد النواب. واذا اضفنا الى ذلك أن هذا المشروع لا يزال بحاجة الى المرور امام مجلس الشيوخ حيث يواجه معارضة كبيرة ثم الى مصادقة الرئيس جاك شيراك الذي أعلن انه لن يوافق عليه، ندرك أن ردة الفعل التركية تنبع من معارضة أي تدخل في"الشأن التركي"، اكثر مما تعبر عن نظرة واقعية الى فرص نجاح المشروع. ولا يشبه الحظر المفروض على مناقشة التاريخ في تركيا سوى الحظر المقترح فرضه على عدم مناقشته في فرنسا. كلاهما اسبابه سياسية لها علاقة بالحاضر، ولا تبغي من التاريخ سوى توظيفه في صراعات هذا الحاضر. انه الامر نفسه ينطبق على الحظر المفروض في بعض دول اوروبية على مناقشة حقيقة"الهولوكوست". هنا تأتي السياسة لتمنع النقاش، لأن وجود دولة ما قام على ما اعتبرته"حقيقة تاريخية"فصارت تخشى أن يؤدي العبث بأوراق التاريخ الى تهديد ذلك الوجود! لكن الوضع في تركيا مختلف، فأي حقيقة في قضية الارمن لن تقوض الكيان التركي بل ستزيده مناعة لأنها ستثبت ثقته بالوقوف الجريء في مواجهة تاريخه. ثم... لماذا تريد تركيا الحديثة ان تحمل أوزار امبراطورية العثمانيين وهي التي يقول ساستها ان مؤسسها اتاتورك طوى تلك الصفحة ومضى؟