أكثر من ربع قرن عاشت نظرية"الثقوب السود"، قبل ان يعلن واضعها، العالم البريطاني ستيفن هوكينغ تراجعه عنها. مظهراً بذلك ان النظريات العلمية، مهما تكن باهرة ومحكمة وجذرية، ليست سوى حلقات في سياق من البحث اللامتناهي في اسرار الكون. ولكن، ما الثقب الاسود الذي اكتشفه هوكينغ، او اخترعه؟ وكم هنالك، في وصف الظاهرة الكونية، من صُوَر تنطبق على الظاهرة البشرية، أو بالاحرى على الانسان في طبيعته وهواجسه؟ الثقب الاسود، في تعريف هوكينغ أو في تصوره، هو حيّز في الفضاء يشكّل منطقة جذب قوي جداً. هذه المنطقة تستطيع ابتلاع كل شيء، بما في ذلك الضوء الذي لا يستطيع أن يهرب منها. وكل ما يبتلعه الثقب الاسود يختفي داخله الى الابد، او بالاحرى الى ان يحين اجل الثقب نفسه، فيختفي هو الآخر. كأنما الثقب الاسود كون قائم بذاته، كون مستقل داخل الكون الشامل الذي يحتويه. كأنما الثقب الاسود قبر للاشياء التي تهوي فيه. كأنما الثقوب السود قبور سابحة في الفضاء اللامتناهي. كأنها اكوان مستقلة تحتبس الاشياء في داخلها فلا تفضي بمعلومات عنها، تبقي عليها اسراراً لا تسمح بما يفتضحها. كأنما الثقوب السود بؤر لأسرار هائمة في الكون الفسيح الذي يحتضنها جميعاً. في التصور الاول لهوكينغ، كانت المعلومات عن الاشياء في داخل الثقب الاسود لا تستطيع الخروج منه. ولكن، في مرحلة لاحقة، قال هوكينغ ان الثقوب السود لا تمحو المعلومات عن الاشياء التي تبتلعها، وانما تشوه هذه المعلومات، التي يمكنها بعد ذلك ان تفلت من الثقوب السود، فتخرج منها، ولكن باشكال مشوهة. لا أدعي، في هذه المقالة، القدرة على الخوض في نقاش حول نظرية"الثقوب السود". ولا استطيع الحكم على ما سوف يكون لهذه النظرية من مكانة في سياق التطور التاريخي للفيزياء أو لابحاث الفضاء. ولكن، يحلو لي في المقابل ان أجد في وصف الثقب الاسود - كما تصوره هوكينغ - بعداً شعرياً، وأن أجد هذا الوصف منطبقاً - الى حد بعيد - على كل فرد من افراد المجتمعات البشرية! سوف استرشد، في ما سيأتي من كلام في هذه المقالة، بما قاله الشاعر العربي القديم في هذا البيت المشهور: أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟ يختزن الواحد منّا في داخله معلومات وانطباعات وصوراً ورؤىً، تتحصل لديه من جراء علاقاته بكائنات العالم من حوله. وهذه الحصيلة اذ تدخل في تكوين الفرد، انما تدخل في كيان مستقل لا تستطيع الخروج منه الا مشوهة، أو معدلة على سبيل التخفيف. كأنها تدخل في ثقب أسود، يبتلعها ثم لا يفضي بها أبداً، واذا افضى بشيء منها فإنه - في احسن الاحوال - يفضي بما يشبهها أو يذكّر بها. لك امرئ تجاربه الخاصة ازاء الآخرين والاشياء، وازاء نفسه ايضاً. وما يكتسبه عبر التجربة يتغير قليلاً أو كثيراً عندما يعبر عنه. حتى ازاء الحالات أو الظواهر أو المواقف التي يحسبها الافراد مشتركة في ما بينهم، لا يمكن لفرد ان يكتسب تماماً ما يكتسبه الآخر، مثلما يتعذر على الواحد من اولئك الافراد ان يعبر تماماً كما يعبر الآخر. فلو طلبنا - بكل بساطة - من مجموعة من الاشخاص ان يقفوا امام منظر طبيعي معين، وان يعبر كل منهم عن انطباعاته، لوجدنا أن المنظر الواحد يصبح مناظر عدة، بعدد الاشخاص الذين نظروا اليه. اكثر من ذلك، اذ قلنا ان اللغة هي الظاهرة العامة المشتركة بين افراد جماعة معينة أو شعب معين، فإن كل فرد يحيا في هذه اللغة ويعبر بها على نحو خاص، أو بالاحرى بطريقة فردية أو شخصية. كل فرد له ما ليس لغيره من الافراد من علاقات عاطفية وفكرية وفنية بهذه اللغة، يشعر على نحو خاص بمفرداتها وبقواعدها وبصورها وبأسرارها. كل شخص منا ثقب أسود، ويستطيع ان يستوعب"العالم الاكبر"كما جاء في بيت الشاعر العربي. والعالم الاكبر هنا هو الكون بأسره، الذي حاول العلماء - ومنهم ستيفن هوكينغ - ان يضعوا نظرية عامة تفسر نشوءه وتطوره ومختلف الحركات والمسارات في داخله. وكل شخص منا يستطيع ان يستوعب هذا الكون بفضل طاقاته العقلية على التصور والتحليل والاستنتاج ... وما الى ذلك، هذه القدرة على الاستيعاب تقابلها قدرة على التعبير. وفي هاتين القدرتين، يتميز كل شخص منا عن غيره من الاشخاص. فالاستيعاب فردي، وكذلك التعبير فردي هو الآخر. وما بين الاستيعاب والتعبير مسافة تتيح للمعلومات المعبّر عنها ان تختلف قليلاً أو كثيراً عن المعلومات المستوعبة بفتح العين، بل تجعل من هذا الاختلاف أمراً محتماً. ألا نرى، بعد هذا كله، ان الوصف الذي قدمه ستيفن هوكينغ للثقب الاسود صحت نظريته أو لم تصح ينطبق بنسبة كبيرة على كل فرد منا، نحن البشر؟!