في معرض مناقشة الماضي الاستعماري الأوروبي، والفرنسي على وجه الخصوص، أعلنت جماعات من أبناء المهاجرين الى فرنسا، ومن بعض المثقفين الفرنسيين، رأياً في اتصال أحوال الحاضر الهجرة والإقامة وشروطهما الاجتماعية والثقافية بأحوال الماضي الاستعمار والعنصرية والفتح بالقوة. وبعض الجماعات هذه ذهبت الى مساواة الحاضر بالماضي مساواة تامة. وقالت ان حاضر المهاجرين وأبنائهم، في الحواضر والمدن الاستعمارية السابقة، لا يختلف في شيء عن ماضي آبائهم وأجدادهم، وإن تباينت الوسائل، وتزيا العنف والتمييز والقهر بأزياء أقل ظهوراً وبداهة. فالمهاجرون، اليوم، هم"وطنيو"الأمس"المحليون والبلديون"، على ما كانوا يسمون. ويتصدر البيانات والمقالات والمنشورات التي تبلور الرأي هذا، وتنتصر له بالشواهد والتحليل، كتاب كتبه أوليفييه لوكورغرانميزون، ووسمه بعنوان"استعمار واستئصال، في الحرب والدولة المستعمرة"الكولويالية. وينكر الكتاب في رأس ما ينكر التاريخانية الماركسية وزعمها أن الاستعمار اضطلع بدور رائد ومتنور على الطريق الى نمط الانتاج الرأسمالي. ويرسي الكتاب احتجاجه على تشخيصه في المقالات والسياسات المستعمرة تناولاً فريداً للسكان الأصليين، لا يقارن بتناول المقالات والسياسات الأوروبية نفسها للأعداء الأوروبيين. فهي صنفت الأسود الافريقي"متوحشاً"لا يرجى تمدينه. وصنفت العربي"بربرياً"، لم يتمدن على نحو قويم. والحق ان مؤلف الكتاب يعدو المقارنة، ويتركها جانباً حين لا تنفعه، ولا تتفق مع أحكامه. فالألمان، وهم شعب أوروبي وجار الشعب الفرنسي، صورتهم كتب التأريخ الفرنسية في القرن التاسع عشر، في أثناء المنازعات الفرنسية الألمانية والأوروبية، في صورة أبناء البرابرة والغزاة الذين اجتاحوا أوروبا ودمروا حضارتها"الرومانية"يومذاك. ولكن"استعمار واستئصال"يذكر بحقائق ينبغى ألا تنسى: فالبؤس والجوع كانا سلاحين من أسلحة فتوح البلدان الأوروبية"ولم تمتنع جيوش الفتح من التوسل بالتعذيب والتشويه والتدنيس"وبين أوائل فتح كاليدونيا الجديدة وختامه نقص عدد السكان الأصليين 20 في المئة"ونقص عدد الجزائريين 30 في المئة بين 1830 و1870"ولم تكن الصبغة القانونية التي صبغ بها الفاتحون المستعمرون الاستيلاء عنوة على أراضي أهل البلاد، إلا تسويغاً للسطو والسرقة. ونقل الفاتحون بعض ما ابتكروه في فتوحهم الاستعمارية من آلات قهر وتمكن وسيطرة، الى الحواضر. فأعملوا في قمع الحركات العمالية والشعبية الداخلية أو الوطنية ابتكاراتهم وراء البحار. ولكن ميل المؤلف، أوليفييه لوكورغرانميزون، الى قصر العنف وابتدائه على الحملات العسكرية الاستعمارية، يجافي وقائع ظاهرة. فهو يذهب الى أن الحروب الأوروبية مالت الى التمدين في أثناء القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وعلى خلاف التمدين المزعوم، نكل الجيش الألماني في المدنيين البلجيكيين، في 1914، وارتكب الجيش نفسه المذابح في أهالي بلدتي أورادور - سور - غلان وتول، في 1944، وقصف الحلفاء الأوروبيين المدن الألمانية قصفاً مدمراً ولا هوادة فيه. ولا يُغفل عن قصف هيروشيما وناغازاكي بالسلاح النووي، ولا عن سعي النازيين الألمان في إبادة اليهود الأوروبيين والغجر الأوروبيين. فهل يحتاج تعليل هذه الفعلات الى سوابق"كولونيالية"استعمارية؟ والحق أن الحرب التي جرت وقائعها على الأرض الجزائرية، وأثخنت في الجزائريين، ليس بينها وبين الحملات التي جردتها الدول الأوروبية ل"تأديب"الانتفاضات المحلية والدينية والاجتماعية، الداخلية، فرق كبير أو صغير. وابتداء سن قوانين الحرب، في القرن التاسع عشر، لم يستتبع أثراً عملياً ظاهراً وسريعاً يعتد به. وقمع عامية باريس، في 1871، وأحكام النفي الجماعي التي ذيلته، تضاهي فظائعه الفظائع الاستعمارية. ويغفل الكتاب - البيان وقائع لا تماشي احتجاجه وأدلته. فهو يسكت عن أن عدد الجزائريين استأنف الزيادة غداة 1870. ويعود ذلك الى الولادات الجزائرية، بديهة، ويعود، من وجه آخر، الى اشتغال"الوطنيين المحليين"، أي الى إشغالهم في مرافق الانتاج المأجور والرأسمالي. ومنطق الانتاج، على رغم ملابسته بعض العنف، بعيد من منطق الإبادة والاستئصال البعد كله. ويسكت الكتاب كذلك عن تسليط المجتمعات المستعمَرة سابقاً العنف المدمر في حروبها الداخلية. فلا مقاتل أو مذابح الأرمن، ولا ضحايا النازية والستالينية والماوية التي تحصى بالملايين، ولا مئات آلاف الضحايا الأندونيسيين إبان أعمال التصفية في 1965، ولا ضحايا الخمير الحمر 1.5 مليون، ولا مقابر صدام حسين الجماعية، وغيرها مثلها، يصح حملها على الفتوح والسياسات الاستعمارية، أو تصح نسبتها الى أصول ثقافية وسياسية من الباب نفسه. ومساواة الحملات الاستعمارية بعضها بعض تعمي عن ملاحظة الفروق بين حركات التحرر، وعن فهم مصائر البلدان المستقلة من بعد. فحملة مراكش كانت تكلفتها البشرية أقل عشرة أضعاف من تكلفة حملة الجزائر. ولم يخلف استقلال المغرب الندوب التي خلفها استقلال الجزائر، ولا يزال بعضها راعفاً في فرنسا نفسها. والفرق، كماً ونوعاً، بين السياستين الوطنيتين والداخليتين، المغربية والجزائرية، هو ربما من مترتبات نهجين استعماريين مختلفين. وقد يكون سكوت"الوطنيين المحليين"المزعومين عن الفرق القوي هذا، تسويغاً لسياسة على النمط الجزائري، من بومدين الى الضباط الحاكمين اليوم. عن جيلبير مينييه وبيار فيدال - ناكيه مؤرخان، "إسبري" الفرنسية، 12/2005