في محاولاتنا لاستكشاف خريطة الصراع بين العرب والغرب، حاولنا أن نقدم رؤية تاريخية وجيزة لمراحل هذا الصراع، والتركيز من بعد على حوار الحضارات في مرحلة الهيمنة الغربية. ويمكن القول إن الدول الأوروبية في مرحلة استعمارها للبلاد العربية خصوصاً ولعديد من البلاد النامية في آسيا وأفريقيا، أحست بأنها في حاجة إلى ابتداع نظرية أخلاقية تبرر حركة الاستعمار الغربي الجارفة، والتي هي - من ناحية المبدأ - ضد كل الشعارات التنويرية الأوروبية التي كانت تتحدث عن الإخاء والحرية والمساواة! ولذلك لجأت الدول الأوروبية الاستعمارية إلى عدد من فلاسفتها الرجعيين لصياغة هذه النظرية، كما لجأت في السنوات الماضية الولاياتالمتحدةالأمريكية - كما سنرى - لبعض علماء السياسة من مثقفي السلطة، لصياغة نظرية تبرر الهيمنة الأمريكية. وهكذا ظهرت نظرية «عبء الرجل الأبيض» إلى الوجود في فكر القرن التاسع عشر، الذي بزغت فيه نظرية عنصرية متكاملة تقسم البشر إلى أجناس غير متساوية القيمة. فهناك أجناس عليا تمثل الرجال (والنساء) البيض، وأجناس دنيا تمثل الرجال (والنساء) السود! وحسب هذه النظرية للرجال البيض كل الحقوق، أما الرجال السود فهم مجرد عبيد ينتمون إلى ثقافات بدائية متخلفة، ولذلك كان يطلق عليهم «البرابرة» أو «الهمج». وهؤلاء البرابرة يقع عبء تمدينهم على الجنس الأبيض المتحضر والمزود بأفكار سامية. ولذلك فعملية استعمار الشعوب البدائية مبررة أخلاقياً، لأنها هي الوسيلة الوحيدة لنقل هذه الشعوب من حالة الوحشية إلى حالة التمدن! هكذا خدع العقل الأوروبي الاستعماري نفسه، كي يبرر ظاهرة الاستعمار، وكي يقنع المواطنين الأوروبيين بأن اشتراكهم في الحروب الاستعمارية مسألة مبررة بل وأخلاقية، بل إن زرع أعداد كبيرة من السكان الأوروبيين في قلب البلاد المستعمَرة - كما فعلت فرنسا في الجزائر - مسألة مشروعة، لأن الجزائر في العقل الاستعماري الفرنسي، كانت تعتبر جزءاً من «المتروبول» الفرنسي! ولقد تكفلت ثورة الجزائر المجيدة بتبديد هذه الأوهام، وأرغمت المستوطنين الفرنسيين على العودة إلى فرنسا، وهزمت الجيش الفرنسي هزائم ساحقة في معارك مشهودة.ولا يظن أحد أن التاريخ الاستعماري قد انتهت فصوله بعد استقلال الجزائر أو ليبيا، وذلك لأن الحكومة الجزائرية تطالب فرنسا بالاعتذار الرسمي العلني عن استعمارها للجزائر، في الوقت الذي حاولت فيه الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي) إصدار تشريع ينص على أن استعمار الجزائر كان عملية مشروعة، بل ويتضمن تحية لجهود الاستعمار! ونظراً إلى احتجاج الحكومة الجزائرية، ضغط جاك شيراك رئيس فرنسا السابق على البرلمان وسحب المشروع. ولكن نتيجة ضغط الحكومة الليبية اضطرت إيطاليا لإصدار اعتذار علني عن احتلالها لليبيا، بل وافقت على دفع تعويضات عن ذلك.وقد ظننا ونحن ندرس تاريخنا القومي ونقرأ عن إبداعات العقل الاستعماري الأوروبي في مجال صياغة نظرية «عبء الرجل الأبيض»، أن هذا فصل مضى من فصول التاريخ، إلا أنه في عصر العولمة تم استنساخ هذه النظرية وظهرت نظرية شبيهة هي «عبء الرجل الغربي الديموقراطي»! وبيان ذلك أن عصر الهيمنة الغربية السافرة قد انتهى تاريخياً بالاستقلال الرسمي لعديد من دول العالم الثالث. غير أنه منذ الثمانينات بزغ عصر العولمة، والتى هي في الواقع «هيمنة» من نوع جديد! وهي ليست مجرد هيمنة اقتصادية، بل إنها هيمنة سياسية أيضاً وثقافية واتصالية! والعولمة - إذا أردنا أن نصوغ لها تعريفاً إجرائياً يساعدنا على فهم تعقيداتها - وهي ظاهرة مركبة ومعقدة في الواقع، بدلاً من التعريفات الإيديولوجية لأهل اليمين وأهل اليسار، لقلنا إنها «سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع ورؤوس الأموال والخدمات والبشر من مكان لمكان آخر في العالم بغير حدود أو قيود». وللعولمة تجليات متعددة. وتبرز في المقدمة تجلياتها السياسية وهي شعارات الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان. ولها تجليات اقتصادية هي تحرير الاقتصاد بالكامل، وكف يد الدولة عن التدخل فيه وإطلاق حرية السوق إلى غير حد، والاعتماد المطلق على آلية العرض والطلب، وفتح حدود الدول، وصياغة سوق رأسمالي عالمي مفتوح لكل أنواع التدفقات. وللعولمة تجليات ثقافية، تبرز فى محاولة صياغة ثقافية كونية عابرة لحدود الثقافات والمجتمعات، لصياغة نسق عالمي ملزم للجماهير كافة في مختلف بلاد العالم. وهناك أخيراً التجليات الاتصالية للعولمة التي - من خلال الثورة الاتصالية الكبرى - جعلت العالم كله متصلاً ببعضه، بحيث يعيش الناس الأحداث عالمية كانت أو محلية في الوقت الواقعي لها مما يخلق وعياً كونياً شاملاً. في إطار العولمة ظهرت نظرية «عبء الرجل الغربي الديموقراطي»، وهي كما قررنا استنساخ من نظرية «عبء الرجل الأبيض» التي سادت مناخ القرن التاسع عشر في عصر الاستعمار الأوروبي. والنظرية الجديدة بالغة البساطة، لأنه يتوارى فيها الاستعماريون القدامى، ويظهر نمط جديد من «الأوصياء الجدد» مهمتهم الأساسية السفر والترحال إلى بلاد العالم النامية، أو بعبارة أدق المتخلفة، للتبشير بالديموقراطية على النسق الغربي، وتعليم الشعوب «البربرية» ومن بينها بالطبع الشعوب العربية أصول الديموقراطية ومبادئها وقواعدها.غير أن التبشير تجاوز حدود الدعوة إلى الديموقراطية للخلاص من ظواهر الاستبداد العربي المتعددة، إلى خلق قواعد شعبية من أهل البلاد العربية تؤمن بالديموقراطية وتعمل بنشاط لتحقيقها، من خلال شبكات مؤسسات المجتمع المدني (الجماعات التطوعية أو الأهلية). ليس ذلك فقط بل - من خلال برنامج أمريكي طموح - خصصت له ميزانية تقدر بملايين الدولارات، لكي تمنح لهذه الجمعيات حتى تقوم بواجباتها «المقدسة» في الدعوة للديموقراطية واحترام حقوق الإنسان! وقد استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية - والحق يقال - في أن تنجح في هذا المضمار نجاحاً مشهوداً. لأنها خلال سنوات قليلة استطاعت من خلال الإغراء المالي والإغراق بغير حدود، استقطاب عشرات من «الناشطين» والمثقفين العرب والذين أصبحوا يتقاضون الملايين من الميزانية الأمريكية لنشر الديموقراطية. وهكذا من خلال رشوة سياسية تسترت وراء الدعوة الى الديموقراطية، استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تشتري الولاء المطلق لعشرات الجمعيات الأهلية العربية، ومئات المثقفين العرب، الذين غرقوا في بحار الفساد السياسي وهم يرفعون شعارات جذابة تدعو لمحاربة الاستبداد السياسي ونشر الديموقراطية.وهكذا تحول الاستعماريون الأوروبيون القدامى في عصر الاستعمار إلى أوصياء جدد في عصر العولمة، تحقيقاً لنظرية «عبء الرجل الأبيض الغربي» في تمدين الشعوب البربرية، ودفعها دفعاً إلى الديموقراطية، حتى باستخدام القوة المسلحة كما فعلت الولاياتالمتحدةالأمريكية مع العراق! ألا يثبت ذلك أن التاريخ المعاصر بكل أحداثه المأساوية، وبكل الجرائم التي ارتكبت ضد الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، يتضمن إلى جانب ذلك مشاهد فكاهية وصوراً كاريكاتورية، قد يكون من أبرزها أخيراً الحذاء الذي انطلق في بغداد في اتجاه وجه الرئيس بوش، تحية له على جهوده السامية في فرض الديموقراطية الأميركية على العراق من خلال تمزيق نسيج المجتمع العراقي! عن الأحداث المغربية